مخاطر التشيع السياسي في العراق
دكتور/بشير مسى نافع
دكتور/بشير مسى نافع

هذه القوى خطر على العراق، على الشيعة، وخطر بالغ على العرب كأمة. هي خطر علي العراق لأن أحلامها المجنونة في السيطرة دفعتها إلى مشروع تطهير طائفي وحشي لخلق واقع عراقي منقسم علي ذاته، واقع يكسر مفهوم الوطن، يضع العشيرة في مواجهة ذاتها، يؤدي إلى انهيار آلاف الأسر العراقية الشريفة المختلطة، ويزرع تراب العراق بمئات الآلاف من جثث الضحايا.
بقلم د. بشير موسى نافع
ليست القوميات نتاج وعي أزلي أو وراثي. تنشأ القوميات وتتطور في سياقات تاريخية معينة. وجد العرب والانكليز والألمان، مثلاً، منذ قرون بعيدة، ولكن وعي كل أمة بذاتها كأمة لم يأخذ في التبلور إلا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

وقد وفر تطور وسائل الاتصال، الكلمة المطبوعة، المدرسة والجامعة الحديثة، تضخم المدن، والانهيار التدريجي لروابط الا
جتماع التقليدي، الظروف الموضوعية الضرورية لولادة الوعي القومي.

في بعض الحالات، سيما خارج النطاق الأوروبي الغربي، حيث ولدت القومية للمرة الأولى، لعبت التحديات الخارجية دوراً رئيساً في نشوء ونمو فكرة الأمة.

ولتوكيد وجود الأمة، لانتشار الفكرة القومية من دائرة النخبة إلى أوساط الشعب وفئاته المختلفة، لابد من بناء سردية خاصة بالأمة، سردية تكفل صياغة الهوية وتعيد الهوية صياغتها باستمرار، سردية تتسلل إلى قاعات الدرس، إلى سطور الصحف، إلى نشرات الأخبار، إلى الغناء والموسيقي، إلى الرسم والمسرح، إلى المتحف وكتب الجغرافيا، وإلى الشعر والرواية. سردية الأمة هي وعي الأمة الجمعي بذاتها كأمة؛ وما إن تكسر هذه السردية، تقوض، أو تنهار، حتى تتعرض الأمة ذاتها للانكسار أو التقويض أو الانهيار.

خلال المائة عام الماضية، ومثل كل الأمم الأخرى، بني العرب سرديتهم كأمة. لعبت أسطورة النقاء العرقي دوراً مركزياً في أغلب القوميات الأوروبية؛ ولكن الآباء العروبيين للفكرة العربية، وقد كان أكثرهم من المسلمين الإصلاحيين، رفضوا العنصرية المضمرة في موضوعة النقاء العرقي، وجعلوا الميراث التاريخي والثقافي واللغوي ركيزة الفكرة العروبية.

السردية العربية هي سردية اللغة المشتركة؛ سردية المتنبي وأبي تمام؛ الفتوحات الإسلامية الكبرى؛ النصوص المؤسسة للتاريخ العربي ـ الإسلامي، للفقه والحديث، للنحو والصرف؛ سردية الغزو المغولي والحملات الصليبية؛ سردية مقاومة الاستعمار الأوروبي الحديث؛ ولادة الحركة العربية في مواجهة التتريك وتقسيم المنطقة عشية الحرب العالمية الأولي؛ النضال من أجل الاستقلال والتوحد حول فلسطين والجزائر ومعركة السويس؛ وهي سردية هزيمة حزيران/ يونيو 1967م، وانطلاق المقاومة الفلسطينية؛ سردية المقاومة في جنوب لبنان وانتفاضات الشعب الفلسطيني؛ سردية السياب وعبد الصبور ودرويش.

تتجاوز هذه السردية حدود الدولة القطرية، تجمع أبناء الدار البيضاء بأبناء القاهرة ودمشق. ولا توحد هذه السردية مواقف العرب من الأحداث الكبرى والتحديات التي تواجههم وحسب، بل تعيد هذه الأحداث والتحديات توليد سردية الأمة باستمرار لا ينقطع. يراقب العرب نشرة الأنباء ذاتها عبر الفضائيات الرئيسية، يحتجون معاً ضد غزو العراق، ويتظاهرون معاً لنصرة لبنان.

بيد أن سردية الأمة تتعرض اليوم لمخاطر غير مسبوقة. ما لم تستطع الدولة القطرية ونخبها الحاكمة وامتيازاتها كسره أو إضعافه، يواجه الآن أكبر تحد له في العراق. الذين ساهموا في الحركة العربية منذ نهاية القرن التاسع عشر، الذين رفدوا سردية الأمة، لم يكونوا سنة أو شيعة، مسيحيين أو مسلمين، لبنانيين أو يمنيين؛ كانوا كل هؤلاء.

ولم يكن غريباً بالتالي أن يضم الجيل الأول من العروبيين سنة وشيعة ومسيحيين، أن يلعب مسيحيون عرب دوراً رئيسياً في تأسيس عصبة العمل القومي، حزب البعث، وحركة القوميين العرب؛ أو أن يكون العراقيون الشيعة مكوناً رئيسياً من مكونات الأحزاب القومية في العراق، من حزب الاستقلال إلى حزب البعث.

ولكن تداعيات احتلال العراق منذ أكثر من ثلاث سنوات، وصعود القوي السياسية الشيعية علي موجة طائفية بشعة، يهدد رؤية العرب لأنفسهم كعرب.

القوى السياسية الشيعية في العراق ليست بالضرورة شيعة العراق، وتبني هذه القوى خطاباً طائفياً لا يعني بالضرورة وجود مسوغات أيديولوجية متجذرة أو واقعية لهذا الخطاب. لا تمثل هذه القوى شيعة العراق لأن هناك معارضة واسعة لها في أوساط العشائر العربية الشيعية، كما في أوساط رجال الدين والمثقفين الشيعة العرب؛ بينما تستمد هذه القوى سندها من خطاب ابتزازي روجت له من بداية الاحتلال في أوساط البسطاء، من سلطة ميليشياتها ووسائل الإرهاب التي توظفها ضد معارضيها، ومن الاستخدام واسع النطاق وغير الأخلاقي للمال السياسي.

وليس هناك شك أن تاريخ العراق عرف لحظات توتر سنية ـ شيعية، ولكن تلك اللحظات لم تتحول مطلقاً إلى أيديولوجيا طائفية، لا أيديولوجيا العزل ولا الإبادة؛ وإلا فكيف يمكن تفسير استمرار الشيعة في العراق طوال أكثر من ألف عام في ظل سلطة سنية مطلقة، أو حتى انتشار التشيع بين عشائر الجنوب خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تحت عين وسمع المسئولين العثمانيين السنة.

بل إن ما عرفه العراق من تداخل اجتماعي، تعليمي، وسياسي، منذ قيام الدولة العراقية الحديثة في 1921 لم تعرفه حتى المجتمعات الأوروبية الحديثة. ثمة عشائر عراقية تتوزع بين التسنن والتشيع، وآلاف من الأسر العراقية المختلطة. وحتى بروز القوي الشيعية السياسية، لا تكاد توجد حركة سياسية واحدة في التاريخ العراقي الحديث لم تضم سنة وشيعة معاً.

بيد أن القوى السياسية الشيعية قامت عن وعي وتصميم، حيناً، وعن جهل، حيناً آخر، بإعادة صناعة تاريخ العراق، وصياغة هذا التاريخ في شعارات طائفية وفئوية، تنطلق ابتداء من تصور العراقيين الشيعة كجماعة تفترق عن بقية العراقيين.

سوغت القوى الشيعية السياسية تأييدها الغزو الأجنبي، والتحالف مع إدارة الاحتلال بدافع التخلص من نظام عراقي مستبد؛ وهو تسويغ يوحي بتوجه عراقي جمعي ودفاع عن حقوق العراق والعراقيين، بغض النظر عن الاتفاق والاختلاف مع الموقف من الغزو والاحتلال.

ولكن هذه القوى سرعان ما كرست نفسها كقوة دفع طائفية طاغية، تستهدف فصل شيعة العراق عن باقي العراقيين، سياسة وثقافة وجغرافية وحكماً. ولعل حادثة إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين تحمل بعض ملامح هذا التوجه. فقد تصور البعض أن البشاعة الطائفية المقززة التي أحاطت عملية الإعدام، من التوقيت الطائفي والصيحات الطائفية إلى السلوك البدائي البذيء، مجرد خطأ.

ولكن الحقيقة أن أجواء الإعدام ليست عفوية، بل مقصودة، بوعي أو بدون وعي، بنتها القوى الشيعية السياسية العراقية حجراً حجراً. القوي السياسية الشيعية لا تريد لشيعة العراق أن يشعروا بارتباطهم بمحيطهم العربي، لا تريد لهم تقديم إسلامهم على طائفتهم، ولا تكترث هذه القوى أدنى اكتراث بمشاعر العرب والمسلمين. هذه قوى طائفية مغلقة، قوي مريضة، وهي قوي يسيطر عليها شعور بالضعف، تجد في الكهف الطائفي المظلم وسيلتها الوحيدة للبقاء وتأسيس الشرعية.

هذه القوى خطر على العراق، على الشيعة، وخطر بالغ على العرب كأمة. هي خطر علي العراق لأن أحلامها المجنونة في السيطرة دفعتها إلى مشروع تطهير طائفي وحشي لخلق واقع عراقي منقسم علي ذاته، واقع يكسر مفهوم الوطن، يضع العشيرة في مواجهة ذاتها، يؤدي إلى انهيار آلاف الأسر العراقية الشريفة المختلطة، ويزرع تراب العراق بمئات الآلاف من جثث الضحايا. وهي خطر علي الشيعة لأنها تجرهم إلى المجهول، تجرهم إلى مواجهة لم يريدوها ولا هي في صالحهم بأي حال من الأحوال، مواجهة لا أفق لها ضد أشقائهم العراقيين والعرب والمسلمين. وهي خطر بالغ وغير مسبوق علي العرب كأمة، علي السردية العربية، وعلى طموح العرب في التقدم نحو مستقبل أفضل.

باستمرار المشهد الطائفي الدموي في العراق، ليس ثمة من وسيلة لتجنب تفاقمه واتساعه ليطال محيطه العربي. فبعد شهور قليلة من التفاف العرب حول مقاومة حزب الله للعدوان الإسرائيلي، تشهد العواصم العربية، وللمرة الأولى في التاريخ العربي الحديث، تصاعد خطاب طائفي مرير. شيعة البحرين، إحدى أول دول الخليج تسيساً وتحديثاً، يصوتون في الانتخابات البرلمانية ككتلة واحدة بلا ألوان سياسية.

السنة، الذين لم يروا أنفسهم مطلقاً كطائفة، يتذكرون أنهم سنة؛ ودعاوي الهلال الشيعي، التي اعتبرت مجرد أداة أجنبية لزرع الفتنة والشقاق بين شعوب المنطقة، ينظر إليها الآن بجدية. السياسة الإيرانية في لبنان وفلسطين، التي وجدت دائماً دعماً شعبياً عربياً واسعاً، تغرق الآن في إيحاءات الميراث الصفوي تجاه العراق.

التدافع السياسي في لبنان يتحول شيئاً فشيئاً إلى تدافع طائفي. القوى السنية الطائفية، التي لم تكن أكثر من قوى هامشية بالنسبة للجسم السني الكبير والمتنوع، تكسب أرضاً جديدة كل يوم. إن استمرت الأمور على وتيرتها الحالية، فليس من المستبعد أن تشهد المنطقة العربية انفجارات طائفية متلاحقة؛ بل وأن يتسع نطاق الانفجار إلى بلدان إسلامية أخرى. وبدلاً من أن يرى العرب أنفسهم عرباً يعتزون بميراثهم التاريخي التعددي، الذي سمح لأن تكون هذه المنطقة من العالم الأكثر تنوعاً، طائفياً ودينياً واثنياً، يأخذون في رؤية أنفسهم سنة وشيعة.

وليس من المستبعد أن يعاد تصور إيران في الوعي العربي من كونها حليفاً إسلاميا إلى اعتبارها مصدر خطر وتهديد طائفي وقومي. وبدلاً من أن يكون التوجه نحو تخليص العراق والمنطقة من قوى الغزو والاحتلال الأجنبية، يصبح من المبرر والمسوغ التحالف مع القوى الأجنبية لإيقاع الهزيمة بإيران وحلفائها. وليس إيران وحسب، بل فتح المجال العربي ـ الإسلامي كله على أبواب حقبة مظلمة من التحالفات التي تلعب القوى الخارجية فيها دور الحكم والمرجع والمايسترو.

مثل هذا المستقبل، لن يؤسس لانقسام داخلي فلكي الأبعاد، بل سيدفع المنطقة عقوداً عدة إلى الوراء. المشهد العربي لم يصل إلى حالة من الاصطفاف الطائفي؛ ولكن أحداً لا يعرف إلى متى يمكن للقوى العربية والإسلامية الرافضة للحالة الطائفية أن تحافظ علي مواقعها، بينما الإعصار العراقي العاتي يطال الفضاء العربي ـ الإسلامي كله.

فما المخرج إذن من هذا المصير؟ طوال العامين الماضيين، ومنذ اتضحت ملامح المشروع الطائفي للقوي الشيعية السياسية في العراق، كتبت وكتب غيري كثيرون، نطالب برفع الغطاء الإسلامي الشيعي عن القوى الطائفية والإرهابية. لو أن القيادات والدوائر العلمائية الشيعية خارج العراق، وقفت من القوى العراقية الشيعية الطائفية والإرهابية موقفاً شبيهاً من ذلك الذي أعلنته القيادات والدوائر العلمائية السنية من القوي الطائفية والإرهابية السنية في العراق، لربما ما كانت أوضاع العراق وصلت إلى ما وصلت إليه، وربما كان من الممكن محاصرة تلك الأوضاع وتحصين الوضع العربي من أثرها المدمر.

ما زال هناك بالطبع فسحة قصيرة من الوقت لتلافي ما وقع؛ ولكن حجم المشكلة أصبح أكبر كثيراً مما كان عليه حتى قبل عام واحد. الموت والتطهير الطائفي اللذان تشهدهما بغداد، وباقي مناطق العراق الأخرى، تسللا إلى غرف جلوس الأسر العربية، من الرباط إلى مسقط.

لقد تعامل الكثير من العرب، أنظمة وقادة رأي، مع العراق باستخفاف خلال السنوات الأخيرة، ولم يروا النتائج الوخيمة التي استبطنها مشروع الغزو الأمريكي للعراق نفسه ولكل جواره العربي والإسلامي. وبات من الضروري الآن أن يتحرك الجميع، الأنظمة الحاكمة، قادة الرأي، العلماء، الأحزاب، الدبلوماسية الرسمية والجهود الشعبية وغير الرسمية، لمحاصرة الخطر الطائفي الداهم وإعادة بناء الخطاب العربي الواحد.


في الإثنين 15 يناير-كانون الثاني 2007 08:14:55 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=990