تونس واليمن : حقائق وأرقام وتفسيرات
د.فيصل الحذيفي
د.فيصل الحذيفي

انتفض الشعب التونسي المسالم والأكثر مدنية وحداثة بين كل الشعوب العربية وهو مستمر في انتفاضته العارمة منذ شهر تقريبا، والسؤال المطروح : لماذا حدثت الثورة في تونس ولم تكن في اليمن، وهو نفس السؤال الذي طرحناه في مقالات سابقة لماذا قناة الجزيرة والإعلام الحر في قطر وليس في اليمن؟ مع أن كل المؤشرات تعطي اليمن أفضلية على كليهما ولكنها دخلت مرحلة من الانتكاس والارتكاس المستمر ؟.

سأقدم أرقاما محدودة من واقع تجربتي المعيشية في تونس كشاهد إثبات وفقا للمؤشرات التالية:

1- مؤشر التعليم :

تونس فيها أكثر من مائتي مؤسسة تعليم عالي تستوعب أكثر من ثلاثمائة آلف طالب جامعي، يتمتع أكثر من نصف الطلاب على منحة مالية خمسين دولار للطالب الجامعي ومائة وخمسين دولار لطالب الماجستر أو الدكتورة، ويتمتع الطالب الجامعي بالسكن شبه المجاني ووجبتي طعام هي الغداء والعشاء، ومواصلات مجانية مقابل خمسين دولار في السنة. ومجموع سكانها لايزيد عن عشرة ملايين نسمة.

اليمن سكانها يقارب اليوم خمسة وعشرين مليون نسمة ولديها سبع جامعات وسبع أخرى تحت التأسيس عدد الطلاب فيها جميعا لايزيد عن مائة وخمسين ألف طالب، معظم الطلاب الممنوحين إلى الخارج لا يزيد عن بضعة ألاف من الطلاب ومعظمهم من أبناء الذوات، وقلة من الطلاب لديهم منح داخلية مقدارها عشرين ألف ريال وهم قلة محدودة، نسبة الأمية في اليمن تصل إلى 70 % وفي تونس لاتزيد عن 25% .

جغرافية تونس تصل إلى 164 ألف كيلو متر مربع ومعظم سكانه من الحضر، وجغرافية اليمن 555 ألف كيلو متر مربع ومعظم سكانه من الريف ، الشعب التونسي شعب مدني أحدث قطيعة تامة مع البداوة والقبيلة وهو شعب مسالم فلا يحمل السلاح ولا يميل إلى استعمال العنف، ولديه نزعة للقبول بالآخر يميل إلى الحوار والجدل الفكري والأيدلوجي وهذا ما نجد عكسه لدينا. إذا لدينا نفط وثروات مبددة ولديهم فقط مواطن متعلم ومنتج ومبدع.

1- مؤشر السلطة والأداء السياسي :

كلا الدولتين تمسك فيهما السلطة عائلة تحت يافطة باسم الشعب والنظام الجمهوري زورا وبهتانا، أي أن الديمقراطية هي أكذوبة كبيرة في كليهما، فالمشروعية تقوم على القوة والحق العائلي،وقد أشرنا في مقال سابق إلى« العائلية السياسية»« http://marebpress.net/articles.php?lng=arabic&aid=6906 » المتحكمة في القرار السياسي للدولة العربية المعاصرة، هذا النوع من السلطة تعتمد في إدارة البلاد على الفاشلين من الولاءات والمقربين والمبخرين وحملة المباخر، غير أن ارتفاع نسبة التعليم في تونس كما ونوعا ومعيار الجودة الصارمة في مخرجات مؤسسات التعليم خلقت شعبا حرا وقادرا على تحديد اختياراته وليس من المستغرب أن من أشعل جذوة الثورة في تونس محمد بوعزيزي وهو خريج جامعي احرق نفسه احتجاجا على إهانته من قبل أفراد الشرطة ومصادرة حقه في العمل. بينما شيوع الأمية والجهل جعلت من المواطن اليمني تابعا وذليلا ومدعوسا ورافعا كلتا يديه شاكرا وممتنا على نعمة العبودية هذه، وهو مع كل ذلك يتوهم انه مواطنا حرا بينما - عقلا ومنطقا – لا تجتمع الحرية مع الجهل والفقر والتشرد والبحث عن منافذ للهجرة عبر الحدود والمتاجرة بالبشر والزنا السياحي في أعراض اليمنيين واليمنيات.

3- الأداء التنموي :

في تونس حرصت السلطة على أن تنمي المجتمع التونسي بكل جدية في مجالات التعليم والصحة والاقتصاد والبنى التحتية والتخطيط الحضري والصناعي والسياحي والضمان الاجتماعي وتعزيز دور المرأة والطفولة والشباب، وجل خطئها أنها قترت على الناس في حرياتهم وكرامتهم بقبضة أمنية من حديد ولم تكن تحسب أن مصير المجتمع الأكثر تعليما ورفاهة وانفتاحا وقربا من أوروبا سيأتي يوما ليزلزل عرش السلطة العائلية بالرغم من أدائها الجدي الممتاز في كل المجالات باستثناء الحريات وكتم الأنفاس ولهذا السبب حدثت الثورة باتجاه التطور، انحصر النهب للثروات بتونس فقط في عائلة زوجة الرئيس وأسرته وعلى مستوى القمة، بينما ينتشر الفساد في اليمن من أكبر رأس في الدولة إلى بواب أي مؤسسة حكومية قد يمنعك من الدخول إليها مقابل رشوة أو إدخال أوراقك ومعاملاتك إلى سمسري داخل المؤسسة حتى وأنت تستخرج بطاقة شخصية أو جواز سفر أو ترخيص أو توظيف أو أي شأن يخصك مهما كانت عادية فلا بد من دفع رشوة ومبالغ غير قانونية.

في اليمن : سعت السلطة إلى الاستحواذ على كل شيء جميل لصالحها، فعندنا مسجد الصالح وجامعة الصالح، وجمعية الصالح، ومدن الصالح السكنية ومنح الصالح وتبرعات الصالح وكلها من أموال الشعب مجيرة لصالح الحاكم الفرد وأخيرا وفق التعديلات الدستورية المقترحة نحن ذاهبون إلى خلق شعب الصالح من العبيد، ودمرت السلطة كل ما هو جميل في هذا المجتمع، فحولت التسامح إلى كراهية، والوحدة إلى انفصال، والنظام إلى فوضى، والتعليم إلى جهل، والسياسة إلى تبعية مطلقة وعبودية لم تعد تعرفها كل دول العالم، والإبقاء على التخلف والبداوة والقبلية والهمجية، وغياب أشكال المدنية، وخلق أحزاب ومجتمع مدني ومنظمات موازية تابعة للسلطة تأتمر بأمرها. ولهذه الأسباب ماتت الثورة اليمنية التي كانت مراحلها القصيرة تمتد بين 1962 وعام 1978 مرحلة عابرة للانتقال من نظام بيت حميد الدين القائمة على شرعية الحق الإلهي إلى نظام بيت الأحمر القائم على شرعية الحق العائلي.

4- مؤشر الموازنة العامة:

شعب تونس أقل من نصف الشعب اليمني تبلغ موازنته العامة أكثر من 12 مليار دولار بينما الموازنة اليمنية تصل 7 مليار دولار فقط ، الشعب التونسي يكاد يصل إلى الاكتفاء الذاتي الغذائي وغيره وله مجالات متعددة في التصدير إلى أوروبا وأمريكا اللاتينية في الأغذية والزيتون والمنسوجات والصناعات الجلدية وليس لها نفط ومعظم نتاج الأسواق بكل الاحتياجات صناعة تونسية، بينما نحن نستورد معظم احتياجاتنا، حتى الحلبة والزبيب والثوم والبصل والذرة والشعير، لم يعد أمامنا إلا أن نستورد من الصين أحزابا سياسية وهاشميين ووهابيين وقبائل ذات جودة وتقنية عالية.

5- أسرار انتفاض الشعب التونسي وركود الشعب اليمني :

إن غياب الأحزاب السياسية الفاعلة في تونس ومؤسسات المجتمع المدني المستقل، دفع المواطن التونسي إلى أخذ زمام المبادرة بعيدا عن التنظيمات السياسية والاجتماعية وخرج بثورة « شعبية عفوية عارمة» دون توجيه من أحد أو تبعية لأحد، ولذلك صعب على أي جهة بما فيها مؤسسات القمع الرسمية في السيطرة على هذه الاحتجاجات، بينما في اليمن شكل وجود بعض الأحزاب السياسية المستقلة نسبيا وبعض مؤسسات المجتمع المدني كابحا أمام الانتفاضة الشعبية المحتملة مع ما يتوفر في اليمن من القدرة على التنفيس الإعلامي عبر الصحافة والنت والمواقع الالكتروني وارتفاع الصوت عاليا وممارسة حرية التعبير التي تدفع النخبة ثمنا باهضا لها، وهو ما يفتقده الناس في تونس. وهذه الأحزاب اليوم بالرغم من المخاطر المحدقة بالشعب اليمني ليست قادرة على أخذ زمام المبادرة خوفا على نفسها وصونا لمصالحها وهذه هي ايجابيات حرية التنظيمات السياسية التي أجلت الثورة في اليمن وعجلت فيها بتونس.

المحصلة السياسية : في كل النظم العربية يبرز في الواجهة « الحاكم القاتل لشعبه» الحاكم الذي لا يتورع من توجيه أوامره للعسكر من إطلاق النار على الصدور العارية للمواطنين المتظاهرين ضد سياسته الخاطئة، والحاكم المستبد الذي لديه رغبة في التشبث في السلطة ولو أبيد الشعب عن بكرة أبيه، إن في اليمن ظاهرة القتل اليومي بين العسكر المكلفين قانونا بحماية الناس وانصرفوا بموجب هذه الأوامر السلطوية إلى قتل كل من يعارض النظام المعتل أو يشكل خطرا عليه.

فقد استوقفني مرة أحد العساكر لتفتيش السيارة فاحتجيت على التفتيش دون سبب وسألته هل إنا من المشبوهين ؟ « فأنا إنسان مدني ولست من الملاحقين امنيا» فقال لي بكل عفوية « هل أنت من الموتورين»؟ فأجبته بالقول « أنا مواطن صالح في ظل سلطة موتورة خائفة ضعيفة » تلاحق جميع الناس في كل الشوارع وتفتشهم ليلا ونهارا بدون سبب أو إذن النيابة العامة المخولة في تفتيش الناس بمبرر الاشتباه وليس لمجرد إثبات وجود الدولة المصادرة من قبل سلطة العائلة التي ترفع من جهة شعارات الثورة والجمهورية والوحدة بينما هي تكرس بكل قبح ووقاحة سلطة العائلة والوراثة والانفصال ونخشى أن تنهي السلطة وجودها بنفسها بالكيفية التي حدثت مع صومال سيد بري.

النتيجة النهائية : تونس ماضية إلى الخير الحتمي بالرغم من التضحيات، ونحن ماضون إلى الموت السريري المحقق ما لم تحدث معجزة الإلهية لطفا بعباده. وكل إنسان رسمي أو حزبي أو إعلامي يدعي خلاف ذلك هو يمارس الكذب المفضوح على الناس بدون حياء. إننا في بلد تقر - صوريا - بالنظام الديمقراطي الذي من أهم ملامحه التداول السلمي للسلطة والتنافس السياسي، فهل حدث مثل هذا على امتداد ثلاثة وثلاثين عاما. بل إنه لا يوجد في القوانين أو الدستور ما يشير إلى نقل السلطة وتبادلها، فلو فاز أحد برئاسة الدولة - مثلا - فلا نجد نصا قانونيا يبين دور الاستلام والتسليم وتلك دلالة على أن غدرا مبيتا بمصادرة حقوق الأمة بكل تمفصلاتها وعدم تسليم السلطة ولو فاز بها آخرون عبر صناديق الانتخابات كما حدث في الجزائر عام 1991.

hodaifah@yahoo.com


في السبت 15 يناير-كانون الثاني 2011 05:10:34 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=8771