مكانة مصر والفبركة الصحافية
عبد الباري عطوان
عبد الباري عطوان
نشعر بالخجل ونحن نقرأ تقارير اخبارية مطولة في معظم الصحف البريطانية، تتحدث عن كيفية اقدام صحيفة 'الاهرام' العربية الرائدة، والتي تتلمذ في مدرستها آلاف الصحافيين على مدى قرن ونيف من الزمان، باجراء تغييرات فنية، على صورة بثتها وكالات الانباء العالمية، لزعماء الولايات المتحدة الامريكية ومصر والاردن والسلطة الفلسطينية واسرائيل، وهم في طريقهم الى قاعة الاجتماعات الرئيسية في البيت الابيض لتدشين افتتاح مفاوضات السلام المباشرة، بحيث ظهر الرئيس حسني مبارك يتقدم الجميع، بينما كان الاخير في الصورة الاصلية .
 
عملية التزوير هذه، وما تنطوي عليه من سذاجة، ألحقت ضررا كبيرا بالجهود الضخمة التي يبذلها العديد من المثقفين والاعلاميين العرب داخل الوطن العربي وخارجه، لاصلاح الصورة السلبية عن الاعلام العربي في اوساط الصحافيين والسياسيين الغربيين .
 
مصدر الخجل ان هذه الجهود، التي يبذلها جيل جديد من المراسلين والعاملين العرب في الاعلام الغربي، او في بعض الوسائط الاعلامية الغربية، بدأت تعطي ثمارها الايجابية، وتغير الصورة النمطية عن عدم صلاحية الاعلاميين العرب للعمل بطريقة علمية ومهنية راقية. واصبحنا نشاهد العديد من الوجوه العربية على شاشات محطات دولية مثل ' بي.بي سي' و 'سي.ان.ان' وفي صحف مثل 'الغارديان' و'نيويورك تايمز ' و'لوموند' و'دير شبيغل' واخيرا في محطات تلفزة عربية محترمة ناطقة باللغتين العربية والانكليزية .
 
لا نعرف من هو الشخص المسؤول عن هذه الفضيحة المهنية والاخلاقية، ولكننا نعرف جيدا انه اراد ان يوصل الى قرائه صورة كاذبة مزورة تظهر ان الرئيس مبارك يقود ولا يُقاد، ولهذا اتى بها من مؤخرة الصورة الى صدارتها، مستعينا باحدث التقنيات الفنية او ما يعرف في عالم التصوير بـ'الفوتو شوب '.
 
ومن المفارقة ان برنامجا ترفيهيا مصريا اذيع على حلقات في شهر رمضان المبارك الماضي يحمل عنوان 'فبريكانو' قد لجأ الى هذه التقنية لاحراج ضيوفه من الفنانين الكبار، باظهارهم في صور مع غرباء بشكل محرج، على غرار 'الكاميرا الخفية' لاضحاك المشاهدين، ولا بد ان الذي يقف خلف عملية التزوير هذه لصورة الرئيس مبارك قد تأثر او استمد فكرته هذه من البرنامج نفسه .
 
من المؤكد ان الرئيس مبارك لم يأمر بارتكاب هذه الحماقة، وربما لا يعلم بأمرها حتى كتابة هذه السطور، فالحاكم الفعلي في مصر حاليا هو البطانة الفاسدة، واصحاب الصوت الاعلى هم 'وعاظ السلطان'، وهذا ما يفسر حالتي التسيب والارتباك اللتين نرى مظاهرهما في مختلف اوجه الحياة في البلاد .
 
* البطانة الفاسدة تدرك جيدا ان ايامها باتت معدودة، وان مصالحها باتت مهددة، ولذلك تريد اطالة امد النظام بالوسائل والطرق كافة، القانونية منها وغير القانونية، الاخلاقية وغير الاخلاقية، حتى لو جاءت النتائج مضرة بمصر وسمعتها وما تبقى لها من مكانة .
 
ممارسة اعمال الفبركة والتزوير ليست حكرا على المشهدين الاعلامي والسياسي في مصر وحدها، وانما باتت 'ثقافة' منتشرة في مختلف انحاء الوطن العربي، ولكن لا بد من الاعتراف لبعض وسائط الاعلام الرسمي المصري بالريادة في هذا المضمار، وتصديرها للكثير من الخبرات 'المتميزة' الى الجوار الاعلامي الرسمي العربي .
 
فمثلما تتم عمليات تزوير صور الرئيس مبارك التي تنشر على صدر الصفحات الاولى شابا يافعا في الاربعينات من عمره في قمة لياقته البدنية والنفسية، فلا غرابة اذن اذا ما تم تزوير نسبة النمو الاقتصادي في البلاد، والارقام حول الاحتياطي من العملات الصعبة، ونسب التضخم، والبطالة، واعداد الوظائف التي توفرها المشاريع الوهمية سنويا .
 
نعلم جيدا ان مسؤولين كبارا في النظام المصري استأجروا خدمات شركات علاقات عامة غربية كبرى، واستعانوا بخبراء اعلاميين في محطات تلفزة بريطانية من اجل تحسين صورة النظام في الخارج، ورصدوا عشرات الملايين من الدولارات في هذا الصدد. ولا نعرف كيف ستكون مشاعرهم وهم يرون الصور المزورة هذه تنشر في مختلف صحف العالم الكبرى، وقبل اسابيع معدودة من اجراء الانتخابات البرلمانية التي تؤكد صحف النظام، نقلا عن مسؤولين، انها ستكون الاكثر نزاهة وشفافية في تاريخ الانتخابات المصرية .
 
توقعنا، وبعد افتضاح عملية تزوير الصور هذه، ان يتقدم المسؤولون عنها باستقالتهم، او ان يقدم 'اولو الامر' على اقالتهم، وان نقرأ اعتذارا للقراء وحتى للرئيس مبارك عن هذه الخطيئة، ولكن هذا لم يحدث، ويبدو انه لن يحدث، فلا احد يستقيل في الوطن العربي من اهل البطانة، لان هذه الاخطاء دافعها حسن النية اي حماية النظام وضمان ديمومته .
 
هذه الفضيحة الاعلامية ليست شأنا داخليا حتى نتجنب الخوض فيها، فالاضرار الخطيرة المترتبة عليها لا تمس الصحافة المصرية وسمعتها ومصداقيتها، وانما سمعة الصحافة العربية ومصداقيتها والعاملين فيها ايضا. فقد اعادتنا الى المربع الاول مجددا، ووضعتنا جميعا، او معظمنا على الاقل، في موضع الاتهام والدفاع عن النفس بالتالي .
 
فمصر كانت رائدة في الاعلام المهني الحر، وعندما كانت تشهد نهضة اعلامية وفنية وثقافية كان الوطن العربي في معظمه غارقا في الجهل، ومن المؤلم ان نرى صحيفة 'الاهرام ' الاوسع انتشارا والاعمق جذورا، تنحدر الى هذا المستوى الذي لا يمكن ان نرضاه لها نحن الذين تخرجنا من مدرستها .
 
قيادة مصر ورئيسها للمنطقة، وللزعماء الآخرين لا تتم بالتزوير، وفبركة الصور، وانما من خلال نهضة سياسية واقتصادية حقيقية وسياسات اقليمية فاعلة وشجاعة، وهي امور بديهية لا نرى اي اثر لها في مصر حاليا .

* * *

الرئيس مبارك كان يجب عليه ان يبقى في مصر، وان لا يلبي دعوة الرئيس اوباما، لكي يكون شاهدا على انطلاق مفاوضات مباشرة مفروضة بالقوة على الطرف الفلسطيني الضعيف، ووفق الشروط الاسرائيلية، وهو الرجل المريض والمسن .
 
القيادة الحقة تتأتى من خلال اقامة قاعدة اقتصادية صلبة، وديمقراطية حقيقية، وصحافة حرة، وقضاء مستقل، وفصل واضح ومقدس للسلطات، ورقابة برلمانية صارمة على اداء السلطة التنفيذية، ولا تنطبق اي من هذه على النظام الحالي في مصر، بل وجميع الانظمة العربية الاخرى دون اي استثناء .
 
الكذب والتزوير وفبركة الصور لن تعيد لمصر ريادتها ولا مكانتها القيادية في المنطقة والعالم، بل جرها وبسرعة اكبر الى المزيد من التدهور على الصعد كافة .
 
النموذج التركي الذي نراه بأعيننا، ونتابع صعوده بشكل مطرد يمكن ان يشكل منارة تهتدي بها مصر والدول العربية الاخرى للسير في الطريق الصحيح نحو التقدم والنهوض والرخاء، نموذج عنوانه النزاهة والحريات ومحاربة الفساد، وفتح المجالات امام الابداع، وتكريس الاصلاح السياسي والاقتصادي وفق ديمقراطية شفافة، وتعددية سياسية حقيقية، فهذا النموذج هو الذي جعل تركيا تحتل المكانة السادسة عشرة على قائمة اقوى الاقتصادات في العالم .

نريد ومن اعماق قلوبنا لمصر القيادة والزعامة، ولكن ليس من خلال التزوير والفبركة واعمال التضليل والكذب التي تمارس حاليا وتستهدف المواطن المصري الفقير المطحون، مثلما نريد لصحافتها القومية الرائدة ان تستعيد ريادتها في مصر والعالم العربي بأسره، ولكن من خلال ممارسة دورها كسلطة رابعة، وفي اطار منظومة من القيم والاخلاق المهنية الرفيعة، واعتماد الكفاءات العلمية والمعرفية، وتنقية صفوفها من كل المطبلين والمزمرين والمزورين .

 
في الأحد 19 سبتمبر-أيلول 2010 05:05:18 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=7927