ماذا لو نجحت المفاوضات
عبد الباري عطوان
عبد الباري عطوان

كان المرحوم جمال الصوراني (ابو عمر) عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية يجسد 'الحكمة' في قراراته ومواقفه، ويكفي انه حصل على ليسانس الحقوق من الجامعة الامريكية في بيروت، عندما كان اهل قريتي يذهبون الى مدينة يافا (ايام عزّها) من اجل فك طلاسم رسالة مكتوبة تصل اليهم من الحاكم البريطاني، او ادارته، لان غالبيتهم الساحقة كانوا اميين. الرجل كان الى جانب حكمته، يتمتع بالظرف، وسرعة البديهة والنكته المعبرة، وهذا ما يفسر حرص الرئيس عرفات على ان يكون احد ابرز رفقائه في معظم سفراته الخارجية.

مناسبة حديثنا عن المرحوم الصوراني واقعة قد تلخص لنا حقيقة المواقف الفلسطينية والعربية بل والدولية تجاه المفاوضات المباشرة التي انطلقت رسمياً يوم امس الاول، ففي احد ايام شهر كانون الاول/ديسمبر عام 1990، اي بعد اربعة اشهر على غزو القوات العراقية للكويت، وتصاعد المؤشرات على احتمال حدوث عدوان امريكي على العراق انتقاماً و'تحريراً' للامارة، زار وفد فلسطيني برئاسة المرحوم الشهيد عرفات بغداد وكان السيد الصوراني عضواً في الوفد، فبادر الرئيس صدام حسين الى اقامة مأدبة غداء على شرفه، اي الوفد. واثناء الغداء اسهب الرئيس العراقي في وصف قوة العراق وثقته في صد اي عدوان امريكي، وهزيمته.

المرحوم الصوراني لم يتحل بفضيلة الصمت، او هزّ الرأس تأييداً وتأكيداً، مثل الاعضاء الآخرين في الوفد، فبادر الى توجيه سؤال للرئيس صدام: 'سيدي الرئيس انا لا أشك بكل كلمة قلتها حول قوة العراق.. ولكن افرض.. مجرد الافتراض ان العراق هُزم، حتى لو كان هذا الاحتمال اقل من خمسة في المئة، هل حسبتم حساب ذلك؟.. الرئيس الذي فوجئ بالسؤال رد بأن العراق سينتصر (وكان يبني حساباته على ان امريكا لن تهاجم العراق، وقال لي عرفات شخصياً ان جهات كبرى، رفض ان يسميها، اكدت له اي لصدام ذلك)، وطمأن الحضور بنبرة واثقة. وهنا قال السيد الصوراني سيدي الرئيس انا اقول افرض.. افرض.. وهنا لكزه الرئيس عرفات في ساقه من تحت الطاولة، طالبا منه الصمت بعد ان لاحظ امتعاض الرئيس صدام (الاستاذ عبدالله حوراني احد شهود هذه الرواية).

النغمة السائدة حالياً في اوساط النخبة السياسية والشارع الفلسطيني في آن، وبعض الصحف العربية، تعكس رهانا على فشل المفاوضات المباشرة، ويكاد يجمع الجميع على هذه النتيجة، ويسردون القرائن التي تؤكد وجهة نظرهم هذه، ونحن معهم، ولكن ماذا لو حدث العكس، وتمخضت المفاوضات عن تسوية رغم ضعف هذا الاحتمال؟ وجرى فرضها بالقوة، والتواطؤ العربي، والقمع الاسرائيلي، والجبروت الامريكي، على الفلسطينيين، وبعد عرضها على مجلس الامن الدولي واعتمادها كتسوية دولية؟ فهل هناك خطة، لدى حركات المعارضة، والرافضين لهذه المفاوضات، لمواجهة مثل هذا الاحتمال الكارثي في حال جاءت هذه التسوية التي لا توفر الحد الادنى من المطالب الفلسطينية؟

قد يجادل البعض بأن اتفاقات اخرى جرى توقيعها وفشلت، او جرى افشالها، وان الفلسطينيين صمدوا في كامب ديفيد عام 2000، ورفضوا الضغوط الامريكية، فلماذا لا يتكرر الشيء نفسه هذه المرة ايضاً. فلماذا القلق والتطيّر، واطلاق صرخات الهلع والعويل مبكراً، وبعد يوم واحد من بدء المفاوضات؟

الرئيس عباس يتبنى استراتيجية واضحة، ملخصها انه لن يقول 'لا' لامريكا حتى لا يُتهم بانه الطرف المسؤول عن افشال المفاوضات، والعملية السلمية بالتالي، ولهذا قرر الذهاب الى واشنطن، والمشاركة في المفاوضات المباشرة متنازلاً عن كل لاءاته السابقة، وقال في تصريحات ادلى بها في اليمن (واحدة من الدول القلائل التي تستقبله حالياً) انه لن يخسر شيئاً اذا ما ذهب وفشلت المفاوضات.

الامريكيون يعرفون هذه الاستراتيجية، ونتنياهو يحفظها عن ظهر قلب، ولذلك يضغطون عليه وهم مطمئنون انه سيرضخ في النهاية لاملاءاتهم،

فنتنياهو اصر على المفاوضات المباشرة، وكان له ما أراد، وتشدد في ضرورة الذهاب دون شروط مسبقة او مرجعية للمفاوضات، وحصل على ما طلب، واشترط ان تكون المفاوضات بينه وبين الرئيس عباس كل اسبوعين وفي جلسات مغلقة، فلم يجد غير السمع والطاعة، ولم يبق الا طلب واحد، مؤجلة الاجابة عليه، وهو اعتراف السلطة باسرائيل كدولة يهودية، وستتم تلبية هذا الطلب بالقياس لما حصل في الطلبات السابقة.

نتنياهو سيخرج فائزاً في حال فشل المفاوضات او نجاحها، فاذا فشلت فهذا يعني انه لم يقدم اي تنازلات للفلسطينيين، الامر الذي سيجعله بطلاً في اوساط حلفائه وائتلافه، واذا نجحت فانها ستنجح بشروطه، اي الحفاظ على القدس موحدة مع تنازلات شكلية طفيفة، والاعتراف بيهودية اسرائيل، ومتطلباتها الامنية اي السيطرة على حدود الدولة المنزوعة السلاح مع الاردن.

الرئيس عباس سيخرج خاسراً في الحالين، الفشل او النجاح. فالفشل يعني عدم تعاطيه بايجابية مع الشروط الامريكية التي هي اسرائيلية في الاساس، مما قد يؤدي الى اسقاطه من السلطة ورئاستها، واستبداله بشخص آخر 'اكثر تجاوباً' (سلام فياض مثلاً) او حل السلطة من الاساس. اما نجاحه في الوصول الى تسوية، ودون تفويض شعبي او مؤسساتي فلسطيني مثلما هو حاصل حالياً، فهذا يعني 'تخوينه' وربما التمرد عليه داخلياً، ان لم يحدث ما هو اكثر من ذلك.

***

صحيح ان الرئيس عباس يحظى بغطاء عربي يتمثل في حضور الرئيس المصري حسني مبارك والعاهل الاردني الملك عبد الله لحفل تدشين انطلاق المفاوضات، وبيان سعودي بمباركة هذه الخطوة، ولكنه غطاء واحد مفروض بالترهيب ايضا وكل يشارك لاسبابه واجنداته التي لا علاقة لها بالاجندة الفلسطينية على اي حال، واذا وجدت هذه العلاقة فبشكل ضعيف ولكن ما يحتاجه الرئيس عباس هو الغطاء الفلسطيني، وهو ما يفتقده حالياً. فعرفات فضل الغطاء الفلسطيني على الغطاء العربي، ولهذا خرج بطلاً من كامب ديفيد، ودخل التاريخ كأحد اعظم شهداء القضية العربية والاسلامية، وغفر له الكثيرون معظم اخطائه.

هناك خطران كبيران يواجهان الشعب الفلسطيني من جراء الانخراط في هذه المفاوضات المباشرة، وما قد يتمخض عنها:

الاول: تغييب الشعب الفلسطيني بالكامل عن هذه المفاوضات، فهي ستكون في معظمها سرية ومغلقة بين عباس ونتنياهو، مثلما حدث في الاجتماع الاول في واشنطن، ولا احد يعرف ما دار بينهما بمن في ذلك المرافقون 'الاربعة المُبشرون بالدولة'. فماذا يطبخ عباس مع نتنياهو في الغرف المغلقة لا احد يعرف غيرهما.

الثاني: تأكيد عباس بانه سيطرح ما يمكن ان يتوصل اليه من اتفاقات على الشعب الفلسطيني في استفتاء عام. فالسؤال هو كيف سيتم هذا الاستفتاء، وهل سيشمل اهالي غزة، او الفلسطينيين في الشتات الذين هم اكثر من ثلثي الشعب الفلسطيني وكيف، وما هي الضمانات بعدم تزويره، وشاهدنا ديمقراطية السلطة في انصع صورها من خلال الاعتداء بالضرب على حلفائها والشخصيات المستقلة الداعمة لها اثناء ندوة النادي البروتستانتي في ميدان المنارة في رام الله.

نضال الرئيس عباس والمجموعة المحيطة به بات محصوراً حالياً في مسألة تمديد تجميد الاستيطان في القدس المحتلة والضفة الذي ينتهي في 26 من الشهر الحالي، فماذا لو جرى 'نحت امريكي' مرفوق بضغوط لصيغة ما لتجاوز هذه المسألة، بحيث يستمر الاستيطان في مناطق ويتوقف في مناطق اخرى؟

نحذر من امكانية التوصل الى تسوية منقوصة ومفروضة لان هناك مخارج عديدة لتزوير الحقائق، فماذا لو قال لنا صائب عريقات ان كل ما فعله الرئيس عباس هو القبول بما قبله الرئيس عرفات في كامب ديفيد، مع بعض التعديلات البسيطة مثل الالتفاف على مسألة السيادة في القدس، مضافاً الى ذلك ان الظرف الدولي تغير، وان الفلسطينيين في وضع ضعيف، وبدون غطاء عربي لنضالهم بعد ان تخلى عنهم العرب كلياً وتركوهم وحدهم يقررون شأنهم. طبعاً لن يذكرنا احد بالقرار الوطني الفلسطيني المستقل وعن العرب بالذات الذي كان موضع فخر للمنظمة وجماعتها.

***

حركة 'حماس' ارادت ان توصل رسالة قوية عشية انطلاق المفاوضات من خلال العملية الفدائية الموجعة في الخليل، مفادها 'نحن هنا'، ولكن السؤال المشروع الذي يطرحه الطرف الآخر هو: اذا كانت الحركة قادرة على تنفيذ عمليات ضد اهداف اسرائيلية في الضفة في الوقت والمكان اللذين تشاء، فلماذا تأخرت ثلاث سنوات على الأقل، ثم لماذا لم تتزامن هذه العملية مع اخرى من قطاع غزة، مثل استئناف الصواريخ مثلاً؟

ندرك جيداً ان لحركة 'حماس' اسبابها، مثلما ان لها ردودها ومبرراتها. ولكن نرى من حقنا ان نسمع اجابات مقنعة على هذه التساؤلات المطروحة في الشارع.

ولعل النقطة الاخرى التي تستحق التوقف عندها هي الصمت السوري الرسمي على المفاوضات المباشرة، فباستثناء مقالات افتتاحية في بعض الصحف السورية تندد بها، لم نسمع مسؤولاً سورياً واحداً اعطى رأيه بها على غرار ما فعلته ايران ورئيسها.

ثلاثة عشر فصيلاً فلسطينياً اجتمعت في دمشق واتفقت على تصعيد المقاومة في الاراضي المحتلة كرد على المفاوضات المباشرة، هذا قرار جميل، ولكن المفروض ان تتصاعد هذه المقاومة لان هناك احتلالاً وبغض النظر عن عقد مفاوضات مباشرة او عدمه.

العملية الفدائية الانجح والاكثر تأثيراً في المفاوضات المباشرة ورعاتها والمشاركين فيها هي التي يمكن ان تنفذها كل من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية، وتتمثل في اعلان الانسحاب من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، او تجميد هذه العضوية ومقاطعة اجتماعات اللجنة حتى يتم اصلاحها بحيث تضم فصائل المقاومة الفاعلة وتكون اكثر تمثيلاً للشعب الفلسطيني. فالانسحاب او التجميد سيسحب شرعية التفاوض باسم الشعب الفلسطيني من الرئيس عباس.

الجبهة الشعبية اعلنت انها تدرس مسألة تجميد عضويتها في اللجنة قبل ايام، ونأمل ان لا تستغرق هذه الدراسة اشهراً او سنوات. فالمسألة لا تحتاج الى دراسة، خاصة بعد ان تعرض مسؤولون فيها للضرب والاهانة، عندما قرروا معارضة المفاوضات المباشرة في ندوة النادي الارثوذكسي.

يجب ان نعترف بان ما افشل اتفاقات اوسلو بروز البديل الفلسطيني المقاوم (حركات المقاومة الاسلامية الى جانب كتائب شهداء الاقصى التابعة لحركة فتح) ورفض اسرائيل تنفيذ هذه الاتفاقات. ولذلك لا بد من استيعاب هذا الدرس، والعودة الى الانتفاضة، خاصة في الضفة الغربية المحتلة كرد على السلام الاقتصادي ومشروع اعلان دولة مسخ يجرى الاعداد له حالياً من خلال هذه المفاوضات.

العالم الغربي ليس مؤسسة خيرية تتعاطف مع الضعفاء، وانما هو عالم لا يتحرك الا اذا تهددت مصالحه الاستراتيجية، فقد صمت بشكل مخجل على قطاع غزة، ولم يتحرك ضد الحصار الا بعد مجزرة سفن الحرية، وادانة اسرائيل عالمياً كدولة مارقة، وبدء عملية نزع الشرعية عنها.

الولايات المتحدة القوة الاعظم في العالم لم تهرب من العراق تحت جنح الليل الا بسبب المقاومة، وهي تستعد للتسليم بهزيمة اخرى في افغانستان بسبب شجاعة الطالبان ورغبتهم الجامحة بالتضحية من اجل وطنهم.

من العيب ان نذكّر الشعب الفلسطيني بهذه البديهيات وهو السيد في هذا الميدان، ومن العار ان يبحث البعض عن اعذار وحجج لتبرير استسلامهم او رضوخهم للامر الواقع السيئ والمهين، مثل عدم توازن القوى او غياب الدعم العربي.


في الأحد 05 سبتمبر-أيلول 2010 11:12:49 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=7857