فلسفة الرحمة في رمضان!!
منير الغليسي
منير الغليسي

ها هو ذا هلال رمضان يهلّ من جديد في دورته السنوية منذ فجر الإسلام إلى قيام الساعة . .

ألفٌ وأربعُمائةٍ وواحدٌ وثلاثون عاماً من هجرة نبيِّ الرحمة . . هي عُمْرُ النور حتى هذا العام . .

كأنما هي عمرُ الرحمة المهداة لا عمرَ الإسلام . . وكأنما هي تاريخُ بزوغ شمس الرحمة لا تاريخَ بزوغ فجر الدين الحق . .

وهل الدينُ إلا الرحمة ذاتها؟؟ . . وهل هي إلا قلبه النابض؟!

منذ ذلك الحين وحتى زمن آبائنا الآخِرين كان لرؤية هلال رمضانَ معنىً آخرُ غيرُ معنى رؤيته وإعلان صومه ساعتئذ . .

كان إذ يهلّ عليهم في السماء له معنى السُّمُوِّ في نفوسهم .. فيتجلى في أبصارهم معنى البصر. . . وفي قلوبهم معنى البصيرة . . وفي أرواحهم معنى الروح . . فكانت نفوسهم تسمو بهذه المعاني من مَهبِط آدمَ الأرضي حيثُ معنى العداوةِ والبغضاءِ متحقّقٌ بين آدمَ وبنيه وإبليسَ وقبيله . . إلى مستقر الرحمة وقرارها . دار السلام .

كانت أبصارُهم –وهم في الأرض- لتِحقّقَ معنى البصر فيتحقق معنى السُّمُوِّ البصري . . لا تنظر سوى في آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها ، وسوى في آثار رحمته –تعالى- في مخلوقاته . . فيرتد أثر هذه الرحمة الإلهية عليهم رحمةً وتراحماً فيما بينهم .

وكانت قلوبهم –وهم كذلك- حتى تحقّقَ معنى البصيرة فيتحقق معنى السُّمُوِّ القلبي . . تتحرّرُ من فساد مضغتها بصلاح النية ، وإخلاص القول والعمل ، وتحقيق معنى الإسلام في نفوسهم ومعناه في سلوكهم . . فينعكس أثر ذلك أن يشهد الله لهم – وقد شهد - بحسن ما صلُح من نياتهم ، وحققوا معناه في أعمالهم وأقوالهم استسلاماً وانقياداً لله. . ورحمةً بأنفسهم : ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾. . ولعَمْري إن هي إلا شهادةٌ سماويةٌ بالرحمة للرحماء من أهل الأرض .

وكانت أرواحهم حتى تؤكدَ معنى حقيقة الروح في الأرض ، فيتحقق معنى السُّمُوِّ الروحي. . تتخلص من كل معنى أرضي دنيوي يشدّها نحو مادة الأرض ، التي عمل فيها الإنسان عملَه المخالفَ لسنة الاستخلاف فيها ، وعمارِها العَمار الذي ينبغي . . فتبقى مشدودةً نحو المصدر السماوي . . مصدر كنهها وحقيقتها عند مليك مقتدر . . فكانت تسمو في الأرض – عن الأرض- عن كل ما ينزعها إليها. . لتظل في سُمُوِّها السمائي عند ذي العرش . . فيتحقق لهم بذلك معنى الرحمة في الأرض ومعناها في السماء .

*  * *

كما كان لرمضانَ –عند أسلافنا- لونٌ آخرُ غيرُ ألوان الموائد ، ومذاقٌ آخرُ غيرُ مذاق طعامه ، وريحٌ أخرى غيرُ المنبعثة منه .

أما اللون فكان متعدداً في ذاته متوحّداً في مصدره : لون الصدق ، لون الإخلاص ، لون الوفاء ، لون الخشية ، لون التسامح ، لون الشعور ، لون الألم . . سبعةُ ألوانٍ رئيسة انبثقت من مصدر واحد هو شمسُ الرحمة التي أشرقت ببزوغ فجر الإسلام على أمم الأرض .

للطبيعة سبعةُ ألوانٍ منبثقةٍ من شمس السماء ظاهرةٍ طوال نهار اليوم الواحد . . ولرمضانَ سبعةُ ألوانٍ مشتقةٍ من شمس الرحمة . . متحققةٍ طوال أيامه الثلاثين . . بل إنَّ العام كلَّه - لدى أولئك الأسلافِ - كان يمثّل رمضانَ . . فيتحقق لديهم معناه وحقيقته بما كان له عليهم من تأثير في أبصارهم وقلوبهم وأرواحهم . . .

كأنما هذه الألوانُ السبعةُ في عددها المتحققةُ في معانيها . . ألوانٌ هبطت من الجنة مع هبوط آدمَ منها . . وتحققت معانيها مع انتشار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. . رسالة الإسلام دين الرحمة . . ويتأكد تحقيقها أكثر مع حلولك يا شهر الرحمة . .

 وأما مذاقُ رمضانَ وريحُهُ - عندهم - فكان من طعم الجنة وريحها . . والجنةُ فيها ما لا عينٌ رأت ، ولا أُذُنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . . لكنها العبادةُ حين يؤديها العبد بروحها. . حين تُظلّه غمامةٌ من الوجل والخشية لخالقه . . خشيةٍ في نفسه على نفسه ، وخشية من نفسه على أهله وقرابته وجيرانه والناس أجمعين . . رحمةًً بنفسه قبلُ ورحمة بأولئك من ثمّ . .

حين ذاك يشعر بأنه إنسان من الجنة لا من الأرض . . أو يشعر بأن آدمَ الأولَ. . آدمَ الجنة حلّ فيه في الأرض . . فصارَ جسدُهُ في الأرض وروحُه في رُتَب الجنة .

كان ذلك هو حال أولئكم السابقين في سائر أيامهم ، وفي أيام رمضان خاصةً . . لأنهم كانوا بشراً من الجنة حين سَمَوا بأنفسهم عن الأرض .

* * *

ولرمضانَ – عندهم – معنىً آخرُ غيرُ معنى الجوع والعطش . . فلو تفكّر الناس في حقيقتهما لكانا خيرَ واعظ مخلص لهم ، ولاستخلصوا منهما أعظم عبر الجوع والعطش. . . فما أعظمك يا رمضان!

-ثلاثون يوماً . . يمسك المسلم فيها عن الطعام والشراب . . عن الملذات والشهوات . . إن هي إلا ثلاثون حصةً دراسيةً في تأديب البطن والفرج . . بل في تهذيب النفس الإنسانية عن أن تتساوى والنفس البهيمية في الأكل والشرب والشعور . .

- إن هي إلا ثلاثون ساعةً دراسيةً في التوحّد والاجتماع والألفة . .

-إن هي إلا ثلاثون درساً في إلغاء التمايز الطبقي والتفاضل الاجتماعي . . وحذف كبرياء الأرض من قاموس الإنسان .

- إن هي إلا ثلاثون درساً في الشعور الواحد بالجوع ، و ثلاثون درسـاً في الجوع إلى وحدة الشعور . .

- إن هي إلا ثلاثون باباً من أبواب الرحمة للغني والفقير ، للحاكم والمحكوم ، للجّبار والضعيف ، على السواء ، طوال ثلاثين يوماً . . فإذا ما تحقق ذلك خلالها . . فإنَّ العامَ كلَّه رمضانُ . . فما أعظمك يا شهرَ الرحمة!

أولئكم هم الناس إذ كانوا . . . . وتلك هي جامعة ُ رمضان .. جامعة الرحمة إذ تربوا فيها فتخرّجوا رحماء!!.


في الخميس 12 أغسطس-آب 2010 11:04:11 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=7728