أربعون يوما.. وما زلت حزينا
نشوان محمد العثماني
نشوان محمد العثماني

على حين غرة وذات صباح صنعائي, فجعت بالنبأ الفاجعة الذي حمل لمسامعي وفاة الفنان الشهير, ذائع الصيت, فيصل علوي الذي طالما شغف بفنه وجداني وتشنفت بأوتاره أذني, وما انفك لساني عن ترداد أغانيه منذ عرفت نفسي في وقت مبكر مغرم حد الثمالة بعميد الفن اللحجي, بأسطورته الخيالية, أبو باسل الذي لم أستطع رثاءه, كما لم أستطع أن أقنع نفسي بتقبل الخبر, فأخرت كل ذلك إلى اليوم؛ علي أتمالك أنفاسي وأمخر عباب الكتابة.

تأتي هذه الأسطر بعد أيام طوال منذ 7 فبراير الماضي, فلم يدر في خلدي أني سأسمع نبأ حزينا ذات صباح باكر ينعي للحج الخضيرة, ولربوع اليمن بأكملها رحيل الأسطورة الخالدة.. الصوت العذب والفن الأصيل, فيصل علوي.. ولم يكن إلا أن أقبل ما ورد للتو في رسالة قصيرة عبر الهاتف النقال, لكن حزني يلازمني, وما زلت حزينا مفجوعا بالرحيل المهاب.

رحل فيصل علوي صبيحة السابع من فبراير 2010, وورود الحسيني تردد بعده ألحانه البديعة "يا ورد يا كاذي.. ياللي تبون الحسيني". ترجل ووادي تبن يصغي للأغنية السرمدية "خميسان".. ذهب والأطفال يزغردون "واعيدوه واعيدوه".. غاب عنا والجمال نشوانا يصحو على أوتار "الحوطة والشيخ عثمان".. نام في مكانه الخالد تاركا كنوزا تراثية فنية فريدة الإتقان.

كم يوم مضغت القات على وحي أوتار "بن علو" وكم يوما تسامرت فيه مع أصدقاء ورفاق في "المسيمير" (إحدى مديريات لحج) حيث وادي تبن, الماء والخضرة والوجه الحسن.. حيث العود يبكي مخلصا: راجعوه يا ناس, جيت لك عاني أزورك, ياللي تبون الحسيني, ما أصعب فراق الحبيب, سيرة دلا, يواعدني وينساني, أسيل الخدود, غلط يا ناس, غزلان في الوادي, قصدي من الزين نظرة, أشتكي من طول هجرك, سلام مني عليكم يا حبايب, ليتني, مني مساء الخير, يا وليد يانينوه, يا بدر يا غصن, خماسي الحروف, فراشة واعدت زهرة, رضاك خير من الدنيا.. وكم سأتذكر.. كم سأنقب في جواهر بن علو, وكم ستسعفني الذاكرة من مجلد الذكريات؟.

من جملة فنانين, ومن زخم الطرب اليمني, كان فيصل علوي هامة فنية يصعب تجاوزها, كما كان قنديلا متوهجا, وسنا مضيئا يستحيل على الفن أن يكرر نفسه فيه على رغم قلة الإمكانات وبساطة الأداء وعدم التكلف, إلا أن هذا ربما كان سببا رئيسا في شعبية النجاح المهول الذي حققه فيصل علوي طوال تجربته الفنية التي امتدت لأربعة عقود منذ نهاية الخمسينات من القرن الفائت, حين كانت أولى باكورته الفنية " أسألك بالحب يا فاتن جميل" للشاعر أحمد عباد الحسيني وألحان الفنان صلاح ناصر كرد.

لا أريد أن استطرد في التنقيب عن إبداع استغنى عن التعريف, ولكني في صدد مناقشة الظروف التي عاشها مهملا, لحتى وافته المنية في عدن الحبيبة صبيحة السابع من فبراير "شباط" 2010م.

لقد عاش عازف العود الشهير, كما كان عازفا متمكنا على آلة الكمنجة (الربابة), حياة أفضل في العهود الماضي, وكغيره من المبدعين اليمنيين لم يحفلوا بالحياة التي كانوا يأملوها ومعهم كل القوى الوطنية في ظل الوحدة اليمنية, فالأمل بحياة أفضل انصرف بعيدا عن هذا الطموح وانشغل باتجاه متغير تماما خلّف بعده كل شيء موحش ومفجع.

وسيصبح المبدع في اليمن الموحد يقدم كل شيء بتفان وإخلاص, وفي أبسط ملمة يجد نفسه وحيدا في وجه العاصفة, مع أن المبدعين, في الأغلب, ليس لديهم أي احتكاك مع أي سياسة, كما أن لا هم لهم إلا الإبداع وحب الوطن والمساهمة الفاعلة في مكونات ثقافة المجتمع والحفاظ على تاريخه وثقافته في حامل سام يسعى لربط عناصر الماضي والحاضر والمستقبل ببعد عميق من التراكم الخلاق ومواصلة الحياة.

لقد رحل فيصل علوي دون صخب, بهدوء تلثم حزنه شفاه الساحل وتتصفح مأساته زرقة السماء, في حين كانت وزارة الثقافة تترقب لحظة أفول النجم الشهير لتصدر بيان نعيها الرنان, حيث كان وكان وكان وكان... وأفنى حياته في كيت وكيت.. بينما لم تكلف نفسها على نحو من هذا الإبداع في النعي والتأبين أن تعتني بمبدعيها ومثقفيها لتقدم لهم أيسر ما يمكن في وقت لم يعد المبدع أن يتمنى إلا ما يحفظ له حياة كريمة دون بذخ أو إسراف, فزمن رغيد من هذا النوع غاب عن مبدعي الحاضر الذي لا يكرمون إلا وقتما سنح الأجل ووري الجثمان الثرى.

وفي هذه التراجيديا الأليمة لا نجد وزارة الثقافة عاجزة عن الاهتمام بالمبدعين, بل نجدها تتخم من لا يستحق بإكرامياتها الخارجة عن الحاجة في بلد لا يفقه فيه وزير أو مدير من منصبه شيئا غير "خلونا نطلب الله".

إن طلبة الله هذه أفقدتنا كثيرا من المبدعين, منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر, فذاك محمد سعد عبد الله مات بالشكل الذي يعرفه الجميع, وذاك أيوب طارش- صاحب النشيد الوطني ظل مرميا في ألمانيا, ولم يُستجب له إلا بعد مناشدات ومناشدات في تخل مهين قبلت أن تكون حكومتنا الرشيدة بطلته في أحلك الظروف التي مر بها ويمر, ولولا بعض أصحاب رأس المال لكان طارش في عداد المؤبنين, والقائمة تطول وتطول.

وإذا كان هذا الواقع صالح للاستمرار برأي مركز القرار في هذا البلد فأين ستتاح للمبدع اليمني الإمكانات بحياة كريمة دون الوصول إلى عوز الحاجة إما القبول بالموت في هذا الوطن أو السفر إلى حيث السبل المتاحة للإبداع أو مد يد الذل لمسئولين ما كانوا على بال الخيال أن يظفروا بالثقة لتولي أمر وزارة أو إدارة في هذه اليمن.

إنها صرخة نطلقها, بهذا الألم الحزين في رحيل واحد من هامات الفن في اليمن, ألا يكون المبدع اليمني على الهامش دائما لا نجيد له إلا تنميق بيانات النعي وحفلات التأبين والتكريم بعد الرحيل.

إن وطنا لا يقدّر قيمة إبداع أبنائه ليس بجدير أن يكون وطنا, وإن مسئولين لا يقدرون ذلك أيضا ليسوا بجديرين حتى في أن يوضعوا في مزبلة التاريخ, حيث نخجل أن نتحدث أن لدينا من يرعى الإبداع والمبدعين ونحن نرى صفا طويلا قضى نحبه كمدا, لحتى جاء من يترحم على زمن الاستعمار البريطاني الذي برزت فيه هامات عظيمة ما لم تبرز في عهد الثورة ولا عهد الوحدة التي أصبحت اليوم في خطر دفع ضريبة الإهمال التي مرت وتمر به.

رحمك الله يا أبا باسل, فلقد ترجلت في زمن التشظي بعد أن أبدعت في زمن التوجه الثوري المجيد.

nashwanalothmani@hotmail.com
في الأحد 21 مارس - آذار 2010 07:23:37 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=6713