إلى من علمنا المقاومة بالأجساد
كاتب/رداد السلامي
كاتب/رداد السلامي

مأرب برس / خاص 

الإهداء إلى الشهداء ..    الشهيد جار الله عمر..

الشهيد أحمد ياسين..   الصحفية بهجة أطوار.. إلى أطفال قانا المكررة ... إلى أهالينا في فلسطين والعراق... إلى هؤلاء وكل من علمنا المقاومة بالأجساد...

عندما يصبح الصمت لغة استشهاد..وحين تصبح المقاومة فعلا بالأجساد.. وعندما يصبح التنظير والتحليل والتقدير عنوان الكساد.. عندها لا أجد ما أرسم وما أقول سوى الوقوف تعظيم سلام.. إلى العابرين في صمت الحناجر. أولئك الذين جعلوا من أجسادهم مراكب للعبور، من أجل أن تكون لنا الشوارع والمعابر والأزقة والنخيل، من أجل أن تكون لنا الأمطار والأشجار والصفصاف والبحر والأصداف والصبّار والحقول.. من أجل أن تكون المساجد والمعابد والمزارع والتراب والسهول.. من أجل فتح نوافذ في زمن الرماد.. من أجل استيقاظ العقل وصحو الضمير.. من أجل استرجاع النص المفقود.. واستعادة الحلم الموءود.. وتحرير الشرف المنهوب.. أولئك الذين كتبوا عناوين البقاء..حيث الكتابة لديهم لا تعني الاستكانة ومضغ الذل والقناعة بهوان المصير.. هم لم يكتبوا بحبر أجسادهم علامات التحدي والمرور، من أجل تزفيت الطرقات أو البحث عن المعادن، بل من أجل التنقيب عن الإنسان الحر في زمن الطواغيت وزمن القمع الاستباقي.. وزمن الإقطاع الفكري.. وزمن ديمقراطيات القنابل.. ليكونوا كتّابا من نوع آخر.. كتابا غادروا منصات الأوراق واشتبكوا مع هموم الناس وأحلام الجماهير... فمن أي المعابر يستطيع قلمي الولوج.. ومن أي المسارب أستطيع المرور ونحن مكبلين بأوطان تحترف الظلم وتنتج الخضوع والهوان.. تملك جيوشا من رماد.. تملك سجونا تطحن العظام والأجساد.. تملك شعوبا منزوعة العيون واللسان..تملك تنمية وهمية ومشاريع من سراب و(كهرباء انقطاع نووية) ..تملك صحافة باهته لغتها حطب وأخشاب.. تملك خططا تآمرية على الوعي الخلاق.. تملك أسلحة موجهة ضد حرية الرأي وحرية التعبير وحقوق الإنسان..تملك خطبا بالية تماما كما العملة القديمة انقرضت من الأسواق.. تملك جرأة كبيرة على تزوير التاريخ وتحريف نتائج الانتخاب...

لا يليق بنا الحياد لا يليق بنا الحداد.. فليكن الوطن محبرة وليتحوّل القلم إلى قنبلة..ولتتحول الأوراق إلى منصّات مفخّخة.. فما عاد ممكنا التستر على المفردات المحظورة.. ما عاد ممكنا التستر على الصمت الآثم، فالكلمة غير قابلة للقسمة، كما الحقيقة غير قابلة للتجزئة.. ما عاد ممكنا إعراب مآسينا المكرّرة.. ما عاد ممكنا تصريف أحوالنا المدمرة، فقد بزغ الشعاع والتقطت معه إشارات صادرة عن الإنسان، وتجاوزت رطل أيامنا في محطات السنين الطويلة... مقطبة الجبين كل الحروف والنصوص واللغات.. عقيمة هي المفردات.. مبتورة كل الأحاديث وكل التصريحات، معطوبة كل الأقاويل والتفاسير والحوارات، خجولة هي الكلمات وموصدة في وجه قلمي كل المسارب والمعابر التي تروي فعل المقاومة بالأجساد، لترسم أن الإرادة ليست منتوجات كيماوية، ولا هي في الأنابيب الاصطناعية.. ولكنها كامنة في الإنسان حيث الرفض والتحدي والممانعة والمقاومة قناديل تضيء ليالي السواد.. هناك في فلسطين الثبات.. إلى لبنان المنتصبة في واقع المؤامرات.. إلى العراق التي تصارع الغزاة إلى (دار فور السودان) ونسيج المؤامرة وإلى كل المدن العربية الأخرى التي تتوق للحرية والانعتاق.. وتشهد ارتفاع درجة حرارة الجماهير وتنتظر الفصل الأخير..من كل هذه المدن التي تستعدّ لرفع الشراع واختراق بحور الضياع..لتعلن الرفض والوقوف في وجه الطغاة، تجيء الومضات، لتروي لنا اعترافات من فضلوا الفعل عن الكلام، وتكتب بالحرف المغموس بين ثنايا الأجساد، حكاية استشهاد " أحمد ياسن" ذاك الفلسطيني المولد والمسلم الانتماء.. ذاك الذي قضى في سجون الاحتلال سنين طوال من أجل أن تحيافلسطين حرة عزيزة وبذلك كتب بالجسد المشلول، طريقا للحرية في سبيل أن تشرق شمس الأمة من خلف الضباب.. رحل بشموخ صامت دون ثرثرة فلسفية ولا خطب عاجية..ولا بيانات معدنية.. ولا بلاغات خشبية.. عبارة المقاومة بالأجساد.. من أجل أن لا نكون أحياء في ثوب أموات.. من أجل أن لا نسير ونحن نتوسد خضوعنا.. كما كنا نشبه البشر ونحن أموات.. ليقول دون تخصيب الكلام أن الثورة لا يمكن أن تزهر طالما بقيت حبيسة التنظير والأوراق.. وأن الأرض لكي تنتعش تحتاج إلى المطر والسحاب.. وأن الورود والأشجار لكي تستيقظ تحتاج إلى هبوب الرياح..وأن الكرامة لا تنبت تحت أرائك التمني والسهاد..وأن الحرية ليست بضاعة تستورد من الأسواق.. وأن التحرير والتغيير لا يمكن أن يكون قولا فضائيا متعاليا عن هموم الناس،..كان الشيخ أحمد ياسين في فجره المشرق الأخير وهو على كف الشهادة كان يحلم بوطن حر ملكا للشعب وفرقاء العمل الساسي والنضالي شريطة توحيد الجهود ولملمة الشتات وتركيز الجهد نحو عدو جبان يحترف القتل..

و الشهيد جار الله عمر مهندس اللقاء المشترك الذي عمل إلى جانب القوى السياسية من أجل ان يوجد وطن لايحتكره فرد ولايستبد به أحد وطن ملكا للفقراء للبؤساء للكادحين..للمواطنين البسطاء.. للمزارعين للفلاحين للمتسولين للإعلاميين للمبدعين للمنفيين للمهاجرين والمهجّرين دون إقصاء .. دون تفضيل دون تبجيل.. وطن لا سجون فيه تنهش الأجساد وتدمر العقول ولا خوف سياسي ولا محاكمات مزوّرة ولا تلاعب بالقانون.. ولا هتافات خاوية ولا مديح ينتج شعبا يحترف الزحف ودق الطبول.. ولاينتج صحافة لا تعتني سوى بإحصاء وترتيب ومسح أحذية المسئول، وقبل أن تخترق رصاصة التخلف جسده وجه كلمته الرائعة إشارة النصر بيد منهكة ليكون المشهد علامة فاصلة بين من يستشهد في سبيل القيم والثوابت.. وبين من يموت كما تموت الجرذان والبعير.. بين من يفتح بجسده مسربا للعبور.. وبين من يقبع في فراشه متوسدا أطنان القول المأثور.. حالما بالتغيير عبر المراسلة دون جهد دون تعب.. سوى الحديث الطري والكلام اليانع والتفرج من خلف الشرفات والشبابيك وعبر الفضائيات والجرائد وعبر الأثير... ليقول جار الله عمر وصية المشهد الأخير.. أن الموت الكريم هو بدايات التغيير.. وأن الفرق شاسع بين يخط بالدم ملامح مستقبل وطنه وبين من يقبع معلبا في مكانه ينتظر مواسم الحصاد وشرب العصير، لتكون الإيحاءات عوض الكلمات.. وتكون الإشارات عوض الخطابات.. وتكون الإيماءات عوض البيانات.. لننتبه من حولنا هناك في عراق الدمار والمأساة.. حيث الرؤوس يوميا تحصد كما العشب والنبات، حيث الموت العبثي والقتل العدمي والموت المجاني.. يأتي تحت عباءات التحرير والتنوير.. وضمن مخطط القصاص والتدمير.. وتخريب التاريخ وحرق الكتب والمكتبات، والمسخ والفتنة وزرع الشقاق والتهجير.. هناك في تلك المدن المغرّبة بلا ميناء.. يصلب الإنسان تحرق الأشجار والأحجار والنخيل، ويمتزج الحزن بالعويل بالصراخ برائحة الرصاص وعطس المدافع وتنهد المفرقعات وسعال الرشاش وهدير القنابل، لينقطع الإرسال، وتتوقف الصورة لينبلج وجه شهيدة الميكروفون وشهيدة الصورة الصحفية الإنسانية " أطوار بهجت " وهي متلبسة بعشق العراق وعشق الفرات.. منتصبة في خندق المعركة تواجه القصف بالميكروفون والصورة والكلمة، لتنقل بصدق المشاعر كل تفاصيل المشرحة... كانت امرأة لا كبعض النساء تعتني بصبغ الشعر ولبس الحلي وتقليم الأظافر، بل فضلت امتطاء صهوة "المكرفون" واختارت التمركز على جبهة المشهد والصورة في زي مقاتل، لم تكن تملك جيشا نظاميا ولا مدرعات ولا قنابل، بل لم يكن على كتفيها نياشين مرصّعة ولا نجوم مذهّبة ولا شاحنات تموين ولا أكداس بنادق، كانت وحيدة عتادها ميكروفونا وكلمة وصفاء حنجرة... وحيدة تمشي على جراحاتها، تتسلل عبر الطرق والمعابر، دون تمويه دون اختفاء ولا ثوب واقي من الرصاص والقنابل، لم يكن معها جيشا جرّارا وحدها كانت كتيبة من عساكر، ترسانتها نقل حي وتقرير موضوعي وخبر استباقي وتنوير المشاهد، لتكون وجها لوجه مع الموت اليومي والاشتباك الدموي، لتلتقط بالصوت الجهوري والحس الصحفي، أحزان المساءات وأوجاع مدن تئن تحت القصف والمفرقعات، وتظل منتصبة واقفة بين عواصف الرصاص وصرير البنادق، متدثرة بعشق التربة وعشق العراق، لتنقل إلينا تأوه الشوارع واحتراق الأشجار وهدم المنازل، وانقطاع الكهرباء وعطش البيوت واشتعال المزارع، ومعاناة القرى وتهديم المساجد، لتروي إلينا نحن الذين نتفرج خلف الجهاز ممدين في المضاجع، قصص المآسي وكل بشاعة المشاهد، لتسقط شهيدة الفعل المقاوم، وتستشهد نيابة عنا جميعا نحن الذين احترفنا الجلوس والقعود والنضال خلف المكاتب، نحن الذين احترفنا الصمت الآثم واحترفنا رطوبة الكلام ومضغ الهزائم، نحن الذين تعوّدنا التفرّج يوميا على طوابير المجازر في غزة والقطاع وجنين وكل الأزقة والأحياء والمخيمات التي ترفض التنازل، وكل المدن المستيقظة التي تأبى السقوط ترفض الهوان وتتحدى المدرعات والعساكر، وتواجه الرصاص والصواريخ والقصف، والحصار والتجويع أمام أنظار العالم، ليكون الفعل المقاوم جوابا فسفوري على من ابتكروا الكتابة باللسان عوضا عن الأصابع، أولئك الكتاب الذين امتهنوا تبييض القهر والاستبداد ومحاولة إقناعنا أن الفهود والنمور والأسود لا تملك أنيابا ولا مخالب.. وان النسور أليفة رقيقة وديعة كالحمائم، فتكون قانا المكرّرة صفحات ملونة تفشل هذه النظريات وكل هذه المزاعم، ويستشهد أطفال لبنان تحت أطنان القنابل، ليكتبوا بأجسادهم الغضة عناوين الطفل المقاوم ليصبح التاريخ يصوغه هؤلاء الأطفال عبر الدماء عبر الصور البشعة وفظاعة المجازر...

فاعذرونا أيها المارون في عمق المداخل.. يا شهداء كل المحاور.. أعذروا صمتنا الآثم. فأنتم المنشقون عن القول المساوم.. ونحن المشتقون من الفشل الجماعي.. مازلنا جامدين في نفس الزمان راسبون في نفس المكان.. منذ سنين طويلة أرهقتنا فواتير الهزائم.. أحيانا ندفعها بالتقسيط وأحيانا كثيرة نسدّدها بالفوائض...

 

 


في الثلاثاء 17 أكتوبر-تشرين الأول 2006 08:55:49 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=633