|
عامان انقضيا على الفقد العظيم، عامان من الحنين الذي يطوي القلب طيًّا، عامان من الغياب الذي لا يعوَّض، عامان منذ أن ارتقت أرواح أبي وأخي إلى بارئها، بعد أن أدّيا مناسك العمرة، ليكونا شاهدين على الطهر حتى آخر لحظة، وكأنهما أبَيا أن يرحلا إلا من أطهر بقاع الأرض. عامان لم تخبُ فيهما ذكراهما، بل ازدادت توهجًا في قلوبنا، وفي قلب هذا الوطن الذي كانا من أنبل أبنائه وأخلص رجاله.
لقد كان أبي، علي مفتاح، قامةً شامخةً في دروب النضال، رجلًا لا يعرف الحياد حين يكون الوطن على المحك، لم يكن يومًا متخاذلًا أو متقاعسًا، بل كان دائم الحضور في كل ميدان يقتضي أن يكون فيه صوت الحق عاليًا. حمل همّ هذا الوطن بين ضلوعه، ونذر حياته في سبيل كرامته، وكان يرى أن الوطن ليس مجرد أرض تُسكن، بل هو كرامة تُحمى، وسيادة تُصان، وإرثٌ تتوارثه الأجيال بصدق الولاء ونقاء الانتماء. لم يكن أبي مجرد والدٍ لنا، بل كان قائدًا ومعلمًا، زرع فينا قيم النضال، وغرس في قلوبنا عشق الحرية، فلم نعرف غيره طريقًا، ولم نجد في سواه خلاصًا.
وفي كنف هذه القيم والمبادئ، نشأ أخي أحمد علي مفتاح، الابن البار لأبيه، والتلميذ الوفي لوطنه، كان امتدادًا حيًّا لمسيرة العطاء التي بدأها والده، وكان صورةً ناصعةً لرجلٍ حمل في صدره همّ الوطن، وسار في درب الفداء بكل إخلاص. لم يكن أحمد مجرد شابٍ يحمل السلاح ويدافع عن تراب وطنه، بل كان عقلًا مفكرًا، ولسانًا ناطقًا بالحق، وروحًا مُلهمةً لمن حوله. كان يرى أن النضال لا يُختزل في بندقية، بل هو موقفٌ ثابت، وكلمةٌ مدويةٌ تهزُّ عروش الطغيان، وإيمانٌ لا يتزعزع بعدالة القضية. كان يحارب بالسلاح حين تستدعي المعركة ذلك، وكان يحارب بالكلمة حين يكون للكلمة أثرٌ أبقى وأعمق.
حين أرادت المليشيات الحوثية أن تبتلع مأرب، حين كانت المؤامرات تُحاك لطمس هوية هذه الأرض التي لم تعرف يومًا الخضوع، كان أخي أحمد من أوائل الذين هبّوا للذود عن مدينته، لم يتردد، لم ينتظر أحدًا ليحركه، بل كان شعلةً متقدةً من الحماس، يُحرّض الناس على الصمود، يوقظ فيهم روح المقاومة، ويؤمن أن الكرامة لا تُوهب، بل تُنتزع انتزاعًا من أنياب الظلم. كان صوتًا جهوريًا في ساحات النضال، وكان جسدًا حاضرًا في مواقع القتال، لم يكن من أولئك الذين يقفون عند حدود الكلام، بل كان من الذين يترجمون أقوالهم إلى أفعال، ومن الذين يسيرون نحو الخطر حين يتراجع الآخرون.
لكن الأقدار كانت أقوى، شاءت مشيئة الله أن يكون الرحيل في غير ميادين المعارك، بل في طريق العودة من بيت الله الحرام، حيث الطهر والنقاء، حيث الأيدي التي ارتفعت بالدعاء طوال شهرٍ كاملٍ في رحاب الكعبة المشرفة. كانت تلك هي رحلته الأخيرة، وكأنها شهادةٌ أخرى تُضاف إلى سجله، شهادةٌ بأن روحه كانت مُعلّقةً بالسماء، وأن قلبه لم يكن يحمل إلا الخير والطهر والنقاء. لم يكن فقده مجرد خسارة لعائلتنا، بل كان خسارةً فادحةً للوطن، لأن الأوطان تفقد بغياب الشرفاء جزءًا من روحها، وتخسر برحيل الصادقين بعضًا من قوتها وثباتها.
إننا اليوم إذ نُحيي ذكراه، لا نبكيه كما يُبكى الراحلون، بل نخلّد مسيرته، ونحمل إرثه، ونجعل منه مشعلًا يُضيء لنا الدرب. لم يكن أحمد رجلًا يمرُّ في الحياة مرور العابرين، بل كان نجمًا سطع في سماء الوطن، ورحل ليبقى في ذاكرة الأجيال، ليكون قدوةً لمن أراد أن يعرف معنى الوفاء، لمن أراد أن يدرك كيف يكون حب الوطن فعلًا لا قولًا. إن ذكراه ستظل حيّةً في وجدان هذا الشعب، لأنه كان ابن الأرض البار، وكان نصير المستضعفين، وكان لسان المظلومين، وكان يد العون لكل محتاج.
رحم الله أبي وأخي، وأسكنهما فسيح جناته، وجعل ذكراهما نبراسًا لا ينطفئ، وعلمنا أن الرجال العظماء لا يموتون، بل يخلدون في ذاكرة الأوطان، ويبقون في ضمير الشعوب، وترتفع أسماؤهم كلما ذكرت المروءة، وكلما تحدث الناس عن معنى الفداء الحقيقي.
في الثلاثاء 01 إبريل-نيسان 2025 06:48:05 م