ميناء عدن .. بين حلف البر وحلف البحر
عبدالرحمن الرياني
عبدالرحمن الرياني
  

في السياق التاريخي الراهن أخذ الصراع يشتد بين القوى العُظمى ويزداد شراسة وضراوة للسيطرة على العالم ويأتي في أولويات السيطرة على الجغرافيا ذات البعد والأهمية " الأستراتيجية الجيوسياسية " من أوكرانيا وحتى الخليج العربي مروراً بأسيا وصولاً إلى غرب القارة الأفريقية ، الصراع بين ما يسمى حلف البحر وفق نظرية "ماهان " بقيادة الولايات المتحدة وحلفاؤها عبر العالم وحلف البر حسب نظرية البريطاني " ماكيندر " أو تلميذه البرفيسور " الروسي الكسندر دوغين " استاذ علم مادة العلوم الجيو سياسية في جامعة موسكو بقيادة روسيا والصين للسيطرة على البحار والمضائق والممرات ، ومع اشتداد الصراع بين الحلفيين القويين تبقى هناك مساحة للتوافق بينهما على العديد من المواقع ذات البعُد الجيوسياسي الأقل في الأهمية وهو ما يحدث الأن ضمن نطاقات جغرافية منتشرة على إمتداد العالم الجغرافيا ، تلك التوافقات ضمن النطاقات الأقل أهمية هي من تؤخر الصِدام بين الحلفين ، ميناء الدُقم العُماني أو ميناء جيبوتي أو حتى مشروع ميناء شرشال في الجزائر أو ميناء الفاو الكبير في العراق جميع هذه المشاريع العملاقة التي توافقت فيها الإرادة بين الحلفين ليست سوى حالات للتهدئة لكنها بالمجمل مع عائداتها الضخمة جميعها ليست بديلة عن ميناء عدن الميناء الطبيعي وأيقونة موانئ العالم ، على المدى القريب يعتبر ميناء " الفاو الكبير " جنوب العراق الميناء البديل فيما يتعلق بعمليات الشحن والمناولة عن ميناء دبي وجبل علي ، قبل أن تنتهي المرحلة الثالثة النهائية لإنشاء ميناء الفاو في 2038 حينها ستكون الخارطة الجغرافية للمنطقة ومن ضمنها دبي والعديد من الإمارات في الخليج العربي قد خضعت لمتغيرات جذرية على الصعيد الجيوسياسي الذي يتم الاشتغال عليه في مراكز الدراسات الخاصة بصناع القرار في الغرب .

الدافع لكتابة المقال هو ما تناقلته بعض وسائل الإعلام الشهر الماضي عن وجود مذكرة جرى تسريبها من فصيل سياسي في جنوب اليمن تطالب بتسليم "ميناء عدن " لشركة موانئ أبو ظبي المملوكة لدولة الإمارات المتحدة ، المسألة أخذت من الإهتمام والجدل بين اليمنيين أكثر مما ينبغي وكنت اتمنى بعد متابعة للعديد من وسائل الإعلام اليمنية والمحلليين الذين تناولوا الموضوع بالنقاشات أن استمع لوجهة نظر معمّقة تقوم بتشخيص الموضوع لكن للأسف وفي ضوء حالة الحذر التي تصل إلى الذعر من قول الحقيقة والتي باتت السمة الملازمة للأنتلجنسيا اليمنية طوال سنوات الحرب في اليمن جرى التعامل مع الأمر من شخصيات خارج الإختصاص جعلته يبدو كما لو أنه قضية سياسية أو حادثة عابرة جرى التعاطي معها وفق المكايدات وردات الفعل العشوائية المذكرة محاولة لخلط الأوراق تسبق التوقيع على اتفاقية السلام ورسالة للطرف الآخر حول النصيب من الكعكة اليمنية ، ميناء عدن يعد من القضايا الاقتصادية المُختلف عليها بين حلف البر وحلف البحر ، الصين قدمت عرضاً يعد الأهم والأكثر جدوى حيث تتعامل الصين وفق مشروعها العملاق " طريق الحرير وحزام الطريق " مع ميناء عدن ضمن منظومة متكاملة ومكملة لمشروع الطريق والحزام الصيني في مراحله الثلاث التي تنتهي في 2049 حيث يشمل المشروع الصيني المرور بـ68 بلد في اسيا وأفريقيا والعرض الصيني يتعاطى مع ميناء عدن حسب رؤية واحدة تشمل بالإضافة إلى الميناء مينائي الحديدة والصليف بعرض استثماري ضخم يقدر بـ(550) مليار دولار يتم تسليمها لحكومة الجمهورية اليمنية على ثلاث دفعات حسب التجهيزات والمنشاءات مع عائدات سنوية تبلغ (180 ) مليار دولار سنوياً من ميناء عدن فقط عند بداية التشغيل الفعلي أي بعد خمس سنوات على توقيع الإتفاقية بين الحكومتين اليمنية والصينية مقابل (2 مليار دولار) ستقوم شركة ابو ظبي لتسليمها لكيان شطري سنوياً ، إلى ذلك تعد جمهورية الصين رأس الهرم في حلف البر الذي يضم روسيا وإيران وكوريا الشمالية والبرازيل والعديد من الدول في افريقيا وامريكا اللاتينية والعديد من دول ما يسمى بحلف " البريكس" حكومة أبو ظبي تعي جيداً أن دخول ميناء عدن ضمن مشروع الطريق الصيني سيشكل بداية النهاية لدبي وجبل علي ، في المقابل يرى صانع القرار الصيني أن خروج ميناء عدن عن استراتيجية " الحزام والطريق " سيُعطل ويؤخر ويقود إلى خسارة وانتكاسة فعلية لمشروع الحزام والطريق الذي لا يمكن الانتقال من مرحلته الثانية إلى المرحلة الثالثة دون أن يكون ميناء عدن ضمن استراتيجية الطريق ، ماتقوم به شركة موانئ أبوظبي من خلال العديد من الاتفاقيات لإدارة العديد من الموانئ في العالم هو سعي الشركة لتنويع مصادر الدخل في مناطق تقع في نطاقات جغرافية بعيدة الآف الأميال عن المجال الحيوي لمينائي" دبي وجبل علي " أما عندما يتعلق الأمر بموانئ منافسة في المنطقة فالأمر مختلف بصورة كاملة مؤخراً فشلت الشركة في إيجاد مكان لها في إدارة ميناء "الفاو الكبير" العراقي الذي سيكون أحد أهم عشرة موانئ للشحن في العالم بحلول 2038 وبرغم توقيع الشركة لعدد من الاتفاقيات مع الجانب العراقي تتعلق بالجوانب الفنية آلا أن الجانب العراقي أوقف مخطط الشركة عندما اعلن أنه أعطى حق الإدارة في الميناء لشركة صينية متخصصة لإدارة الميناء ، أدرك صانع القرار العراقي أن تسليم إدارة الميناء لجهة منافسة يعد جريمة اقتصادية في حق الميناء ستدفع ثمنها الأجيال العراقية الحالية والقادمة .

السؤال الذي يقلق الشارع اليمني هل يمكن تمرير ما ورد في المذكرة المرفوعة لمؤسسة موانئ عدن من قِبل زعيم ميلشيا وفصيل عسكري خارجه عن القانون ولا تعترف بدستور الجمهورية اليمنية وفي ظل واقع سياسي وظروف الحرب وعدم الاستقرار وعدم وجود دولة تفرض سلطاتها على كامل التراب الوطني ، طوال مرحلة عصبة الأمم والأمم المتحدة التي خلفتها كمؤسسة دولية تحدد العلاقات بين دول العالم لم يشهد العالم ولم يعترف ولم يُقر أو يُقنن لإتفاقيات شبيهة بالاتفاقية المزعومة بين الفصيل الانفصالي وشركة موانئ أبوظبي في هكذا وضع .

أخيراً ماهي الأسباب الحقيقية التي أظهرت " المذكرة " في هذا الوقت تحديداً السبب قد يكون صادم لليمنيين بمختلف أطيافهم السياسية ، يستخدم التحالف العربي "المذكرة " كورقة للمقايضة والمساومة على أكثر من إتجاه ، المقايضة الأولى التي تطرقنا لها في يوليو 2020 وهي مرتبطة بمرحلة ما بعد الحرب حيث سيتم وضع عنوان عريض : النفط والغاز والموانئ مقابل إعادة الإعمار والأمن والإستقرار والدولة اليمنية الواحدة ، فيما يتعلق بالنفط والغاز هناك توجه ومشروع خليجي مطروح حتى من قبل الحرب تطرق إليه بالتفصيل اللواء أنور عشقي في ورقة عمل قدمها في المؤتمر السابع لطريق الحرير عندما تحدث عن حقل الجوف العملاق وعن اتفاقية بعيدة المدى بين اليمن ودول الخليج لاستغلاله مناصفة بين اليمن ودول الخليج ، والرؤية الخليجية هي محاولة للحيلولة دون بروز قوة اقتصادية كبرى في المنطقة قادرة على تغيير التوازن الأقتصادي القائم منذ عقود ، وما ينطبق على النفط لايمكن فصله عن الموانئ التي من شأنها في حالة استثمارها أن تتجاوز المشاريع العملاقة التي تشتغل عليها دول المنطقة وبالتالي تخلق واقع اقتصادي يغير وجه المنطقة لصالح قوة اقتصادية جديدة ، المذكرة ليست سوى مُقدمة لتدشين مرحلة جديدة من الصراع في اليمن ، وفي ظل انعدام الرؤى والمشاريع ليس هناك أي قوى سياسية تمتلك رؤية مضادة لوقف المشروع المضاد لنهضة اليمن فلا الحوثيين المتحالفين مع إيران قادرين للتصدي في ظل شراكة نوعية للحليف الإيراني مع العديد من الدول الخليجية الإمارات وقطر وسلطنة عُمان ولا الإصلاح المُحارب خليجياً أو المؤتمر الشعبي العام المنقسم والذي أصبح بقايا حزب متهالك قادر أن يعيد التموضع لليمن في المنطقة سياسيًا واقتصادياً ووفق هذه الوضعية سيستمر وضع الدولة واللا دولة في ظل وجود سلطات موزعة على عدة نطاقات جغرافية في البلد الواحد ، الإحتياطي الضخم من النفط والغاز وموانئ اليمن وباب المندب والثروات المعدنية خط أحمر لقيام دولة بعيدة عن نفوذ الأشقاء والإقليم غير قابلة للتفريط في السيادة الوطنية ولهذا تسعى الدول الشقيقة في إدخال اليمن ضمن مايسمى بالكونفدرالية اليمنية الخليجية والتي هي معلنة من أكثر من عقد زمني وجرى التوافق عليها فيما بين الأشقاء والتي تضمن وضع اليد على الموانئ والمقدرات والثروات اليمنية وبالتالي تضع آلية لتقاسم العائدات للنفط والموانئ بحيث يكون نصيب اليمن وفق القسمة 20% ونصيب الأشقاء 80% من مقدرات اليمن ، أخيراً وفي ظل الصراع المحموم بين الحليفين العملاقين على المضائق والممرات والموانئ أين سيكون موقع التكتل الخليجي الساعي لسحب اليمن نحو الكونفدرالية مع الخليج هل ستكون المنظومة الخليجية مع حلف البحر الحامي العسكري أم مع حلف البر العملاق الاقتصادي والذي يعتبر ميناء عدن رئة لمشروعه العملاق مشروع الحزام والطريق ، المسألة أكبر بكثير من أن تدركها عقلية "القرية" أو النخب اليمنية التي اثبتت الوقائغ والأحداث عقمها السياسي وأنها تعيش حالة موات أكلينيكي لا أكثر .

*رئيس المركز الدولي للإعلام والعلاقات العامة


في الخميس 18 يوليو-تموز 2024 04:56:20 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=47027