جامعة القرويين والاحتلال الفرنسي
احمد الظرافي
احمد الظرافي
"هـذا المسـجد الذي يعتبره الباحثـون في التـاريـخ المغـربي أنه ليس فقـط مسجداً لأداء الصلـوات، ولكنـه جامعةً علميـة، لو لم يمـنّ الله بهـا على أهـل المغـرب... لكـان ربّمـــــا يـدين بـدينٍ غيـر الإســلام، ويتـكلم بلغـةٍ غيـر لغـة القــرآن [1] "

الدكتور عبد الهادي التازي - المؤرخ المغربي المعروف

 كانت هذه الجامعة التاريخية العريقة – بالرغم مما كان يعتريها من ركود في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، - كانت حصنا حصينا للدين الإسلامي، واللغة العربية في المغرب، وهي التي حافظت على عروبة المغرب العربي، طوال فترة الاستعمار الفرنسي، فقد كانت قلعة للصمود في وجه الاحتلال الفرنسي الخبيث، لهذا البلد ولشعبه العربي المسلم.

وفضلا عن ذلك كانت جامعة القرويين مقرّاً لتعبئة الثوار والمحتجين ضد السياسات الاستعمارية الفرنسية البغيضة، ومهدا لإعداد الأبطال.

فـ" جامع القرويين كان يزلزل أركان الاستعمار، وكان الاستعمار يحسب له ألف حساب! إن الاستعمار كان يخاف من خريجي القرويين أكثر مما كان يخاف من رجال الأحزاب السياسية! وخريجو القرويين كانوا هم المجاهدين حقا، إذ كانوا هم الذين أنشئوا الحركة الجهادية في المغرب[2].

كما كانت أروقته وأفنيته ملتقى الرعيل الأول من رواد الحركة الوطنية أثناء الاحتلال الفرنسي للمغرب ومنه انطلقت (ال) مظاهرات ( ضد ) هذا الاستعمار عقب الصلوات[3].

وظلت – القرويين- هي المعقل الوحيد علمياً وسياسياً ودينياً واقفة ضد المستعمر في كل زمان ومكان – كما قال الدكتور عبد الهادي التازي[4]-

ومنها انطلقت شرارة الثورة المغربية ضد هذا المحتل الغاشم، واحتجاجا على توقيع معاهدة الحماية الفرنسية في عام 1912 والتي رد عليها الفرنسيون الغزاة بوحشية حيث ارتكبوا أكبر مذبحة تشهدها فأس في تاريخها المعاصر، قتل الفرنسيون فيها أكثر من 800 من الأهالي، وكانت سببا مباشراً في نقل العاصمة السياسية إلى الرباط[5].

كما " لعب جامع القرويين دورًا كبيرًا في التمهيد لثورة عبد الكريم الخطابي الذي أبلى البلاء الحسن في محاربة الفرنسيين[6]" والأسبان.

ولم يحقد الفرنسيون على شيء في المغرب، قدر حقدهم على جامعة القرويين. فقد كان الجنرال الاستعماري الفرنسي ''ليوطي'' ينعتها بالبيت ''المظلم'' جراء الاحتجاجات وحركات الفدائيين[7].

ودلالات تلك التسمية واضحة، مؤسسةٌ ظلاميةٌ تخرجت منها أفواج وجد فيها المستعمر حَجَرَ عثرة تعترضه، نظرا لتكوينها الإيمانيِّ المحض الذي طالما حاربه بشتى الوسائل[8].

وقد يكون في تصورهم أن ظلامها يحجب عن المغاربة أهدافهم الاستعمارية، ولهذا أنشئوا مدارس للتعليم العصري وهي في الواقع لتكريس أغراضهم وأهدافهم فيما ظلوا يقاومون الإصلاح التربوي والتعليمي بالقرويين[9].

ومعروف أن الاحتلال الفرنسي لم يكن احتلالا عسكريا وسياسيا، فقط، وإنما كان احتلالا ثقافيا بكل ما يعنيه الاحتلال الثقافي من معنى،: وقد سعى بمختلف الوسائل لفرض اللغة الفرنسية على شعوب أقطار المغرب العربي، وإحلالها محل اللغة العربية لغة القرآن الكريم، وذلك من أجل تغيير هويتها العربية الإسلامية.

وقد " عرف - هذا الاستعمار- كيف يغرس لغته داخل البيوت، وهو ليس مثل الاستعمار الإنجليزي الذي كان يكتفي بالوقوف عند البوابات بالخارج ليحصل على الإيرادات والجمارك والبترول، دون أن يهمه ما يجري في الداخل، أما الاستعمار الفرنسي فكان يقصد عُمق الداخل "عُمق الشعب"[10].

وقد" كان الانشغال بمسألة "إصلاح القرويين" في مقدمة انشغالات رجال الإدارة الاستعمارية والمخططين الدهاة لها. وغني عن القول إن الاستعمار الفرنسي للمغرب قد تم التمهيد له بوفرة كثيرة من الدراسات الميدانية التي تتعلق بنظم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ومؤسسة جامعة القرويين في مقدمتها[11].

ولذا فقد عمل الاستعمار الفرنسي على محاربة جامعة القرويين ثم لجأ بعد ذلك إلى احتوائها، وإجهاض دورها بشتى السبل" وخطط للتعليم الذي يخرِّج أناسا يؤمنون بمفاهيم الغرب ويحتقرون ثقافة الأمة، بل يجتهدون في محاربتها[12]."

يقول R.Gaudefroy "طرحت قضية إصلاح القرويين بمجرد إقامة الحماية الفرنسية على المغرب، اهتم به المثقفون المغاربة لأنهم رأوا فيه نهضة للدراسات الإسلامية، هذا وإن فرنسا لتعلم جيدا أن القرويين كان دائما مركزا لنشر الإسلام، وأن نهضته يمكنها أن تؤجح شعور الكراهية والعداء تجاه فرنسا. إن أمر القرويين يهمها، وهذه هي الأسباب التي تدعو فرنسا حسب M/Marty على المساعدة على النهوض بالقرويين.

1-...إنه بالنسبة لفرنسا ميزة، حيث ستتمكن بواسطته من تجميع طلبة المغرب في القرويين وممارسة نوع من التوجيه الروحي عليهم بكل سهولة، ولهذا فإنه حينئذ لا يمكن أن يسمح للمغاربة بإنشاء جمعيات للتعليم الإسلامي الحر، الذي تتعذر علينا مراقبته.

2- سيكون لهذا الإصلاح صدى طيب في العالم الإسلامي، وسيكون ورقة رابحة لفرنسا، لأنها ستظهر بمظهر المحافظ على التراث والعلوم الإسلامية. كما أن له نتائج على الصعيد الداخلي، فأبناء الطبقة الميسورة سينجدبون إلى دروس القرويين، ويلازمون فاس بدل ارتياد جامعات إسلامية خارج حدود الوطن.

3-إذا لم تبادر فرنسا إلى الإمساك بهذا الإصلاح، فإنه سيجري بأياد غير أيادينا، ولن يكون حينئذٍ إلا ضدنا، ينبغي الحذر من أخذ الأجانب بمبادرة الإصلاح واستغلال تطلع معظم الأساتذة، كما يظهر، وستبادر بورجوازية فاس إلى تحقيقه فتأثير الصحافة المشرقية، وخاصة منها التونسية له صدى طيب في فاس التي استقرت فيها جالية تونسية هامة.

4- ينبغي لجامعة القرويين أن تكون إداريين قادرين على التعاون مع فرنسا، إننا لا يمكننا أن نتعاون مع الإداريين القدامى الذين تكونوا في القرويين، إننا بحاجة إلى إداريين جدد ذوي عقلية متفتحة يلزم تكوين إداريين مقتدرين وبأخلاقية إدارية معتبرة[13].

"ولئن كانت جامعة القرويين تضم أسلاك التعليم كلها من الابتدائي إلى الجامعي؛ فإن المستعمر قد وضع مخططاً لبناء تعليم جامعي مواز للقرويين؛ فتم تأسيس معهد عال تحت اسم: (المدرسة العليا الفرنسية البربرية) سنة 1914م ثم تحول سنة 1920م إلى (معهد الدراسات المغربية العليا) حيث احتلت دراسة اللهجات البربرية والإثنوغرافيا والفلكلور المغربي مكان الصدارة فيه، وقد تحول هذا المعهد إلى كلية للآداب والعلوم الإنسانية غداة الاستقلال[14] 

ومع ذلك وبالرغم مما أحدثته الحماية الفرنسية من إحكام قبضتها على جامعة القرويين وأساتذتها والتحكم في إدارة الجامعة وتسييرها، بعد أن استشعرت الدور الخطير الذي تقوم به القرويين، إلا أنها لم تستطع القضاء تماما على هذا الصرح العلمي الشامخ – وإن نجحت بوسائلها الخبيثة في احتوائه وعزله وإضعاف دوره –

" إن إصلاح جامعة القرويين كان من أول ما هدفت إليه الحركة الوطنية المغربية في الثلاثينات من القرن الماضي[15]" إذ كانت مقاومة هذا المخطط جزءاً لا يتجزأ من مقاومة الاستعمار بكافة أشكاله[16].

وكانت هذه الحركة قد انبثقت "من حلقات جامعتي القرويين وابن يوسف، وكانت دروس العلماء تمتاح من أبعاد النظام التربوية والعلمية والسياسية، كانت دروس الزعيم علال الفاسي تحمي الروح الوطنية، وتتهم سياسة المستعمر، وتفضحها وتحاصرها ولهذا كانت أعين المستعمر تراقب هذه الدروس، وتتعسف أحيانا بالمنع والمتابعة والاعتقال، يقول Attillo Gaudio "بمجرد ما تخرج علال الفاسي من جامعة القرويين، بادر إلى التطوع بتدريس تاريخ الإسلام في هذه الجامعة، وكانت دروسه ملتقى للنخبة المتنورة من الشباب وعامة الشعب، وعندما علمت الحماية بما يدور فيها، منعت هذه الدروس وحاولت إلقاء القبض عليه[17]"

فقد كانت هناك رقابه على تدريس تاريخ الإسلام وكان هناك خطوط حمراء لا يسمح المستعمر بتجاوزها.

ويتحدث الدكتور محمد بوطالب عن تجربته الخاصة في هذا الصدد فيقول:" بعد تخرجي من القرويين، بدأت أعطي دروسا طوعية في جامعة القرويين(...) وكنت أدرِّس كتاب «نور اليقين» للخضري في مادة السيرة النبوية.كنت أركِّز في درسي على ملاحم الإسلام الكبرى، وعلى غزوات الرسول الكريم وسيرته الطاهرة، وأُجلّي صور الصحابة الكبار كنماذج يُقتدَى بها. كما كنت أركِّز على استعداد المؤمنين في العهود الأولى للجهاد والفداء لنصرة المثل الإسلامية. واعتبرها الفرنسيون تعبئة للشعب للقيام بثورة ضدهم، فطلبوا مني أن أتوقف عن إلقاء تلك الدروس لكنني رفضت. وقال لي المراقب العسكري الفرنسي في فاس(...) مهدِّدا: «إذا لم توقف هذه الدروس فسيكون مصيرك مثل مصير علال الفاسي الذي كان يُلقي نفس الدروس في نفس المكان التي تدرِّس فيه، ويُدرِّس نفس الكتاب الذي تُدرِّس. وأنت تعرف أين يوجد الآن».

وكان علال الفاسي رحمه الله آنذاك منفيا في الغابون منذ سنة 1937[18]"

ولكن وبالرغم من كل ذلك، فلم تلبث الثورة حتى اندلعت من جديد ضد الفرنسيين، لتعم معظم أرجاء المغرب. وعادت فأس مرة أخرى لرفع راية الثورة ، ولتكون في الواجهة، ومن باحة جامعة القرويين نفسها انطلقت المظاهرات التي نظمتها الحركة الوطنية سنة 1944 للمطالبة بالاستقلال[19].

 [1]- الدكتور عبد الهادي التازي، مرفأ الذاكرة، مجلة العربي العدد،522 مايو2002

[2] الدكتور حسين العلمي، التعليم في المغرب على مفترق طرق ( ندوة) ، إعداد د. فريد الأنصاري ، البيان http://albayan-magazine.com/Dialogues/7.htm

[3] صحيفة الشرق الأوسط ، 11مارس 2007 ، العدد 10330 http://www.asharqalawsat.com/details.asp?section=4&issueno=10330&article=410049&search

[4] صالح الخزمري، جامعة القرويين ودورها في سلامة اللسان، صحيفة الجزيرة، لثلاثاء 4ربيع الثاني 1427، العدد12269، http://search.suhuf.net.sa/2006jaz/may/2/cu3.htm  

[5] انظر: من فاس.. إلى مكناس ( استطلاع )، العربي المرجع السابق

[6] التعليم الديني .. إرهاب أم إصلاح ؟(1/2) ،الإسلام اليوم، 26/8/1423 / 01/11/2002، http://www.islamtoday.net/articles/show_articles_content.cfm?id=37&catid=77&artid=1495  

[7] حول إصلاح الشأن الديني بالمغرب ، صحيفة التجديد 31/12/2003

[8] جوانب من الأزمة المعرفية والتعليمية في المغرب (3) ، abderrahmane chabab 30/09/2006 ، http://achabab.blogspot.com/2006/10/blog-post_116044576264184591.html -

[9] حسن السائح، ص 44ومابعدها

[10] الدكتور عبد الهادي التازي ( مقابلة )، العربي، العدد 505 ، ديسمبر2000

[11] سعيد بن سعيد العلوي، جامعة القرويين والمستقبل (نظرات في مستقبل الجامعة الإسلامية في عالم الغد)، الشبكة الإسلامية ، مجلة التاريخ العربي

[12] مصطفى بن حمزة ، لماذا تحارب المؤسسات الدينية؟( مقال)، صحيفة التجديد،17/10/2005 

[13] محمد الطوكي، نظام التعليم بجامعتي ابن يوسف والقرويين، موقع المراكشي http://www.almarrakchia.net/internedamej.htm ، وانظر أيضا : د. خالد الصمدي، جوانب من تأثير الفرنكوفونية في نظام التربية والتعليم بالمغرب، http://www.albayan-magazine.com/files/frankofoniah/2.htm نقلا عن: محمد عابد الجابري، التعليم بالمغرب العربي، ص 20، توزيع المركز الثقافي العربي، 1989م.

-[14] د. خالد الصمدي، المرجع السابق نقلا عن مرجعه السابق، ص22

[15] - المصطفي العسري في حوار مع صحيفة الراية القطرية ، 18/11/2004

- [16] د. خالد الصمدي، المرجع السابق

[17]- نظام التعليم بجامعتي ابن يوسف والقرويين ، موقع المراكشي http://www.almarrakchia.net/internedamej.htm

[18] - انظر: عبد الهادي بوطالب ( حوار ) ، جريدة الشرق الأوسط ، 1رمضان 1421هـ، 28نوفمبر2000 العدد8036 ، http://www.asharqalawsat.com/details.asp?section=3&issueno=8036&article=15205

[19]- أنظر: الدكتور محمد برادة، مرفأ الذاكرة، العربي العدد 503، أكتوبر2000.


في الخميس 28 أغسطس-آب 2008 04:12:27 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=4105