وانتي يا ريمة تحية
أحمد شبح
أحمد شبح

في كل مرة يقدم أبناء ريمة أنفسهم وقضاياهم بصورة مختلفة. في منعطفات تاريخ اليمن الحديث قدم الريمي تضحيات غير قليلة في سبيل نزعته المدنية الجامحة وحلمه العميق في الوصول إلى دولة، لكن مخرجات تلك التضحيات بمراحلها القريبة والبعيدة لم تكن كما يراد وللأسف، لم تتحقق الدولة ولا يجد الريمي مكانه المفترض في الديولة.

أبناء المحافظة 21، ما قبل الأخيرة في ذيل قائمة المحافظات يقدمون أنفسهم أو هكذا يجدونها كجنود صراعات ووقود معارك وحروب تنسى تسوياتها ذخائرها وضحاياها، يتصدرون المواجهات وتغفلهم المحاصصة والتسويات ليعود اليتامى إلى مواقعهم المقدرة على الرصيف.

يهب الريمي إذا ما دعا الواجب لكنه يغيب عند توزيع المنح والحقائب وتقسيم الغنائم والتعيينات والترقيات. مساكين هم أبناء "ريمة البطلة". قاتلوا ظلام الإمامة فقتلهم ظلم الجمهورية، حاربوا ملكية أحمد وهمشهم أبو أحمد.

هاكم بعض الشواهد:

ملامح المظلومية السوداء المتلاحقة لا تخفيها الحروق المعمرة في وجه الحاج أحمد محمد علي عبادي، وهو من أبناء عزلتي، بني العسكري، مديرية السلفية، الجروح الغائرة في وجهه وكسور أنفه ووجع لسانه وتكسر رقبته وأنامله المبتورة والمهمشة لا تستطيع ترميمها طلاءات الجمهورية، ولا تستطيع ثورة بأهدافها الستة الشكلية أن تعيد له لسانه ونطقه السليم ليفهم غيره قصته المأساة.

لكم أن تتخيلوا الجندي الوطني في ليلة ظلماء وأرض مهجورة في منطقة المحابشة في مارس عام 63م، ترك أهله حاملا حبه لوطنه وذهب للقتال دفاعا عن الجمهورية. وجد نفسه أسيرا في قبضة رجلين بلا قلب، سرقوا بندقيته وتفننوا في غرز طعناتهم اللعينة في جسده الأسير، في جنح الظلام تركوه على الأرض مضرجا بدمائه ليسحب نفسه إلى هناك حيث ضوء نار كانت تنتظره. زحف نحوها حبوا والدماء تسيل خلفه، عشة تحرسها كلاب ورجل في الداخل لم يأبه لاستجداءات الجريح مغادرا قبوه دون اسعافه أو مساعدته. نجح الملازم عبادي في حمل جراحه وصولا إلى باجل ومن ثم إلى مشفى الحديدة حيث المصريين. تسعة أشهر في غيابة المحابشة انتهت بإجازة مرضية امتدت فصولها إلى اليوم دونما حقوق ولا راتب ولا رتبة.

ثورة الستينات وجبهة الثمانينات وانفصال التسعينات وحروب ما بعد الألفين وصولا إلى انتفاضة 2011 وانتفاشة 2014، فصول متلاحقة من التهميش والقهر.

من كانوا عسكريين عدموا حقهم في الرتب والترقيات والتعيينات والامتيازات ومناصب قيادية أسوة بأمثالهم. هل سمعتم بريمي يقود لواء أو محورا أو منطقة عسكرية!. هل سمع أحدكم أن برغلي ريمي محافظا لمحافظة. باستثناء المناضل اللواء الركن يحيى مصلح، أحد قادة ملحمة السبعين ومن كسروا الحصار عن صنعاء. الريمي الوحيد الذي سمي "المحافظ" لم تسعفه نزاهته وقصر مدته بذمار أن يذوق طعم المنصب ليذوق مرارة وطنيته وجهره بكلمة الحق أسيرا في منزله بعد لجوء إلى أم الدنيا، مصر.

من هم مدنيين حرموا من حصتهم في عدالة توزيع الدخل والثروة. هل سمع أحدكم بوزير ريمي غير الأستاذ عبدالملك منصور الذي تلقى اهانات متلاحقة بدأت بالقذف به إلى حقيبة السياحة المتبرجة وهو الاسلامي المجدد، ومنها إلى سفارة في إحدى دول العالم الثالث ثم إلى الجامعة العربية وصولا إلى قطع راتبه الزهيد ثمن انضمامه لانتفاضة 2011 التي استكثرت نصف حكومتها ورئيس يلبس رداء الساحات اطلاق سراحها لأشهر تاركة سمعة الرجل على كل لسان بعد اضطراره للجهر بمظلوميته!

باروت الصراع العالمي وحروب الاتحاد السوفيتي وأعداءه دارت في ريمة ودفع الريمي ثمنا باهظا.

قد لا تصدقون أن والدتي، مد الله في عمرها، لا تعرف تاريخ ميلادي بالضبط، في كل مرة أسألها تشير لي إلى "هربة عتمة". تعني نزوح أبناء مديرتي إلى مديرية عتمة المجاورة هروبا من حرائق المعارك بين أنصار الشيوعية، الجبهة القومية، وقوات الشرعية التي دارت رحاها على رؤوس الأبرياء في الثمانينات ولا تزال ماسي الحرب والتشرد عالقة في أذهان وأحزان الناس ومعالمها على الأرض. لا تزال آثار الصواريخ والقذائف بادية وفي كل مرة تحكي والدتي ماسي التشرد ومتاعب اللجوء إلى بيت "الدوشان" لا تملك السيطرة على دموعها.

تلك الضريبة الموجعة تتلخص في أن جدتي توفيت قبل حوالي عام وشظايا القذائف والبوازيك لا تزال في رجليها، بينما لا تزال شظايا أخرى تؤلم خالاتي الثلاث إلى اليوم. من قاتلوا مع اشتراكية الجنوب ومن قاتلوا في صف شرعية الشمال لم يعرفوا تعويضات وباتوا جميعهم ضحايا عبث تمتد فصوله إلى اليوم. لا تزال مضارب الرشاشات الغليضة الصدئة المتراكمة أعلى الجبال عالقة في ذهن راعي الغنم، الذي هو أنا، وحتى العسكر لم يكلفوا أنفسهم حمل علب الفول والبازيليا معهم وأبقوها متراكمة في مواقعهم.

ماتت جدتي بلا علاج، بلا تعويض، وبضرر لم يجبر وكسور لم تضمد. العدالة لم تجد طريقها إلى هنا. وحتى رفاق الاشتراكي والمشترك ومخرجات الحوار الوطني لم تتطرق إلى ما خلفته شيوعيتهم وشرعيتهم في منطقتنا.

اقتضت خدع الحرب فتح أبواب لواء العمالقة أمام بعض رجال المنطقة ليرسلهم الزعيم صالح للقتال مع جيش صدام حسين ضد ايران ولعله أراد ضرب عشرة عصافير بتلك الحجر الواحدة. لم تتحقق نبوءته وعاد المقاتلين سالمين ليتم احالة كبارهم إلى التقاعد القسري وتشتيت البقية شذر مذر.

يؤسفني أن أتذكر ماساة العزي خالي الذي لا تزال أثار الرصاص في فخذه، عاد من العراق إلى عبس ثم منح اجازة للعلاج من مرض نفسي قبل أن يسرق رقمه العسكري ويأكل فاعل شر راتبه ويغادر اسمه كشوفات الجيش. لكم أن تبحثوا عن أوجاعه وستجدونها شاردة في أحد أحياء مدينة ذمار تردد أهداف الثورة وتحكي جور الجمهورية. بطاقته العسكرية لا تزال صورة منها بحوزتي حتى اليوم، وما أفعل بها يا رفاق الأمس وأخوة اليوم وسادة الغد؟.

عاد المجاهدون في حرب صيف 94 بالغنائم وصناديق الذخائر والأسلحة والأوسمة والنياشين وعاد أصحاب ريمة بالفجائع وصناديق فارغة وآخرون عادوا في النعوش.

توالت حكومات الجمهورية والوحدة ولم تسمعوا بوزير غير منصور. ربما يجهل كثيركم أن لا ريمي يشغل منصب وكيل وزارة غير اثنين حالفهم الحظ. الصعدي وغالب.

وجاءت حروب صعدة وها هو نداء الواجب يا رجال، أكثر من خمسين شهيدا وعشرات المعاقين والجرحى سقطوا هناك.

هل يتذكر أحدكم القائد المغوار الشهيد حسان الواحدي الذي كان صوته يملأ المنطقة قبل أن تبكيه يوم 3 مايو 2004م في مران. لا تزال أصوات سيارات الاسعاف التي كانت تصل منطقتنا الجبلية عالقة في ذهني وهي تعود للسكان بجثث أولادهم ورعاياهم.

هل ذاكرتكم باتت مثقوبة يا من تقاتلون اليوم في سبيل سيد صعدة؟. أنسيتم أن الشهداء من اخوانكم وأولادكم وآباءكم لم يكرموا إلى اليوم بينما قتلى الحوثي ممن قتلوكم وقاتلوكم باتوا شهداء واجب تمنح لهم الاوسمة والأراضي والمكرمات؟

هل نسيتم أن وزارة الدفاع رفضت ادراج اسم أحد الجنود ضمن كشوفات الشهداء مشترطة على والده تسليم بندقية كانت بعهدة ولده المقتول غدرا والتي سلمت لعدوه؟

أنسيتم وأنتم تتقاتلون قربة لسيد المسيرة أن والدة الشهيد الطيار مصلح لم تر جثته إلى اليوم ولا تعرف ما إذا كان حيا أم ميتا؟

أتذكر أستاذي الضابط النموذج عبدالباري الحسني الذي قتلته رصاصة صديقة. وأسرته اليوم تعيش الكفاف. يوم العزاء لم تكلف نفسها وزارة الدفاع اقامة مراسيم دفن بروتوكولية أو ارسال قائدا محترما لتقديم العزاء بدل المائة ألف ريال المرسلة مع أحدهم أو فتح مقبرة الشهداء للضابط الأول في دفعة الكلية الحربية التي لم يجد حفرة إلا في فرع خزيمة أسفل جبل نقم.

لكم بكيت يوما حين بات شقيقه الأصغر قائد المسيرة القرانية بالمنطقة ويوعز لابن الشهيد رفع صوته في وجهي داخل منزلي بأن المطاوعة وعلي محسن قتلوا والده. قبل أن يرسل لي الشقيق الطامح رصاصات قاتلة وهو يتباهى داخل ديواني بأن الشهيد أخطأ واعتدى على السيد متناسيا أن أخاه ذهب بأمر قائده وفي مهمة وطنية اسميت ظلما أداء الواجب.

وفي لحظة زهو عاد ابن رسول الله في منطقتنا ليصارحني وهو المثقف والأستاذ الذي حج إلى صعدة أياما ولم يسمح له بمقابلة السيد وأجبر على الاقامة رفقة أطفال المسيرة وقرويين من أرض الله.

بالأمس القريب وجه المجاهدون رصاصهم إلى صدر بائع الايسكريم الريمي الذي غادر أهله وهاجر إلى عمران بحثا عن لقمة عيش كريمة.

لا أبدوا متمنطقا أو داعيا لعصبية، لكني أملك وغيري الحق في التمنطق وراء المظلومية وتحاشي التضحية في سبيل ظلم جديد.

بنا ما يكفي من الألم والأحزان، فلا تفتحوا علينا أبواب جهنم بهرولتكم نحو الموت وخدمة القتلة. دعونا نسير ونعيش على الرصيف، اتركوا لنا حق العيش ولا تفقدونا حق آخر.

لا نريد أن نقاتل كما لا نريد أن نقتل، وأن نعيش بمظلوميتنا خير لنا ألف مرة من أن نموت ظلما ومن أن نحيا ظالمين أنفسنا أو غيرنا.فلتجنبوا المحافظة الحرب وادفعوا عنها الويل الأحمر. نار الدنيا خير لنا من جنات آخرتهم، وهم حين يزفوننا إلى جنة الآخرة يبقون ليتمتعوا بجنان دنيانا. نحن إذ نطالب بحقوقنا الضائعة من الأولى علينا ألا نضيع حقا آخر.

* العنوان من عبارة يروى أن الرئيس السابق علي صالح قالها في زيارة له إلى عتمة، إذ نظر إلى جبال ريمة ولوح بيده وخاطبها بتلك العبارة. وانتي يا ريمة تحية.


في الثلاثاء 30 ديسمبر-كانون الأول 2014 07:29:06 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=40879