أمل وعيد الأم "
زعفران علي المهناء
زعفران علي المهناء


استيقظت ككل صباح لا يدفعني النشاط.. ولكن تقودني همة أستمدها بعد طول تفكير.. في وضعي ووضع أسرتي الصغيرة في حال فكرة أن أعود أدراجي وأستقر في منزلي، وأنعم بنوم الصباح الدافئ ككل النساء.

أيقظت أسرتي الصغيرة على صوت شريط القرآن وأنا أركض هنا وهناك، اتجه إلي على غير عادته ضاحكاً يحاول مساررتي فهمس بأذني: زودي مصروف أمل اليوم ولمدة أسبوع، نظرت إليه نظرة غضب واندهاش وأجبته بغضب: ومن أين لي بالفائض حتى تطالب بالمزيد..؟ وقبل أن أفتح عليه سيل الاتهامات بأنه مقصر ولا يحث الخطى لتزويد دخلنا وضع يده على فمي واحتضنني وقال: أمل أمس طلبت مني أن أشتري لها شريط يخص عيد الأم، وطلبت مني زيادة في المصروف ليتسنى لها أن تشتري لك هدية بمناسبة عيد الأم الأسبوع المقبل.

ارتخت حدتي كثيراً..! وصمت صمتاً غير مفسر لدي وأحسست بالغبطة لا أدري ما نوع الغبطة ولكن كانت غبطه لأول مرة تخالج مشاعري.

تسللنا جميعاً إلى سيارة زوجي وكان كل شيء اليوم غريباً، فأدار محركها دون أن يستعين بشباب الحي المتجهين إلى مدارسهم لدفعها فيعمل المحرك، لفنا هدوء وصفاء الصباح مع بعض الغمز واللمز بين أمل ووالدها وأنا أسترق النظر إليهما بكل سرور.

درجت إلى عملي وأنا سعيدة، استغرب الجميع لسعادتي..!! فأخبرت زميلاتي أن ابنتي الكبرى بدأت تسر والدها بخصوصياتها يعني ابنتي بدأت تدق أسوار الصبا لم تعد طفلة، أصبح لديها أسرارها وأصبح لديها حرية اتخاذ صندوق أسرارها وجميل أن يكون والدها.

تأكدت من خلال هذه العلاقة الجميلة أن مخاوفي من الضغوط النفسية التي نمر بها داخل أسرتنا الصغيرة جراء الأزمات الاقتصادية لم تحطم نفسيتها.

جرى اليوم كعادته وانتهى الدوام على الانتهاء وأحسست بشيء جثم على صدري فجأة..!! فشعرت بالضيق، فبدأت ألملم أغراضي استعداداً للعودة.. للثكنة العسكرية التي أصارع فيها.. البيت ومتطلباته.. والأطفال واحتياجاتهم.

رن هاتفي فوجدته زوجي فعجبت..!! بالعادة لا يوجد لديه رصيد لا بد أن هناك مكافأة مالية حصل عليها.. أجبته: بنعم.. وبكل هدوء سألني أنتِ في العمل...!؟

نظرت إلى الغرفة التي أنا فيها للتأكد، فسؤاله جداً غريب..!! وأجبته: بنعم ما الجديد.

قال لي: الجديد سأذكره لك عندما أصل إليك لا تتحركي، نصف ساعة وأكون عندك، وأغلق الهاتف.

أعرف زوجي، يزداد هدوءاً كل ما حلّت بنا أزمة يقتلني هدوءه ونحن نقف عاجزين أمام متطلبات ضيف حلّ علينا فجأة، أو حين ترتفع فاتورة الكهرباء أو الماء، ولكن كل هذا في شهرنا الحالي سيطرنا عليه فما الذي حدث..!!؟

مرّت نصف ساعة كأنها ساعات وازدادت دهشتي عندما وجدته أمامي..!! فلم يستخدم الهون ولم يرفع صوته على الحارس لكي يستعجلني..!! أمسكت شنطتي ونهضت قلت يارب يديم علينا شهر مارس الذي يبدو أنني سُأدلل به كثيراً.. هيا لقد تأخرنا على البنات في المدرسة.

قال لي: الصغرى عند والدتي وأمل مازالت في المدرسة سنذهب ونحضرها الآن..!! ومشينا باتجاه السيارة وأنا متعجبة!!

لماذا ذهب بالصغيرة إلى منزل والدته..!؟

ولماذا كل هذا الهدوء القاتل..!؟

ولماذا أخرت مجيء أمل..!؟

فأجابني بأنه يجب أن نمر على زوجة إحدى زملائه في العمل ترقد في المشفى القريب من مدرسة أمل، وكما هي البروتوكولات في كل مكان يمنع اصطحاب الأطفال، لذا أخذت الصغيرة من الحضانة إلى بيت والدتي وسنذهب ونزور زوجة إحدى زملائه.. لم أقتنع بكلامه..!! ولم أجادله، فزيارة المريض أجر، وصمتنا صمتاً كان يقطعه فوضى بائعي الإشارات.

ووصلنا المشفى والكل يركض بين زحام عجيب وفجأة ظهرت أختي وأمي، لم أذكر ماذا حدث بعدها كل ما أذكره أنني كنت أحاول أن أجري وزوجي يحتضنني بكل قوته، لا أذكر أنني صرخت..

ولا أذكر أنني بكيت..

كل ما أذكره أنني ارتميت على باب غرفة الإنعاش الخاصة بابنتي.. تداخلت الكلمات والجمل إرهاب.. تفجيرات.. قتلى.. ضحايا.. طالبات.. قنابل.. وأنا ألتصق بالأرض المجاورة لباب غرفة ابنتي.

من فعل هذا..؟

ما الذي حدث..؟

لمن كل هذا..؟

كيف كان هذا..؟ أسئله لم تشغلني بقدر ما كان يشغلني هل ستفتح أمل عينيها من جديد..؟

وتنظر إلي وتخبرني بسرها مع والدها ونحتفل بعيد الأم سوياً..؟

يا للكارثة ياللهول...

أمل مغمضة عينيها..!؟

في يديها شظايا..

شعرها غير مرتب..

لم يعد زيها المدرسي على جسدها...

ما هذا الغطاء الأخضر..!؟

استغثت بك يا الله أن تعطيني القوة لأستوعب ما أنا فيه.

تدافع الناس.. وجوه أعرفها، ووجوه لا أعرفها وشخصيات كبيرة ومنظمات وأحزاب، الكل يمر من أمامي وأنا لا أرفع عيني عن عينيي أمل.. وأنا أناشدها بالله عليك يا أمل افتحي عينيك...

مرّ يومان وأنا على هذه الحال، ما برحت باب أمل البتة ولم يتجرأ أحد على هذا الطلب مني.

اقترب زوجي مني ورفع يده على كتفي قائلاً: الحمد لله لقد طمأنني الطبيب اليوم، وقال إنها تتحسن وتستجيب للعلاج وخلال أيام ستغادر هذا المكان.

نظرتُ إليه والدموع تنهمر كالشلال من عيني.. قلت له:

أي تحسن وعينها لم تلتقِ بعيني..؟!

أي تحسن ويدها لم تتشابك بيدي..؟!

أي تحسن ورجلها لم تنطوِ تحت أرجلي..؟!

إنها أمل..

فأجابني: نحن أفضل حال ممن فقدوا بناتهم إلى الأبد يا أم أمل..

مسحت دموعي ونظرت إليه نظرة على إثرها أشاح بوجهه عني..

نحن أفضل من غيرنا بماذا..؟!

أرهقنا قلوبنا وعقولنا ونحن نبرر كيف نعيش بشرف وكرامة.. بماذا نحن أفضل من غيرنا..؟!

وهناك من يحاول أن يجتاح الأمان الذي في قلوبنا.. بماذا نحن أفضل من غيرنا..؟!

ونحن بصبرنا وجلدنا نكمم الأفواه التي تتطاول على الوطن.. بماذا نحن أفضل من غيرنا..؟!

والليلة الآلاف من الملائكة الطاهرة تكتم صرخة الخوف وهي تخطو إلى مدرستها.. بماذا نحن أفضل من غيرنا..؟!

والمتفرجون يتفرجون وبطونهم ملأى بالقيح والصديد يعيشون لحظات انتزاع الأمان من شوارع ومدارس تخطو بها زهراتنا..!!

وعدت أنظر إلى.. أمل.. وهي ترقد على ذلك السرير يفصلني عنها هذا الزجاج وأطلق الآهات والصرخات من أعماق فؤادي..

ألهذه الدرجة.. ياوطني يحاول الخونة كائناً من كان تحت أي مسمى أن يغمسنا في مستنقع.. الدم.. والدموع.. والذهول..؟

أم أن الوطن الذي يحمل قلوبنا المحترقة وعظامنا المسحوقة ويُسقى بدمائنا ودموعنا سينبت فجراً جديداً..؟

وفجأة وبضحكة هستيرية قلت:

أبشروا أيها المتفرجون أتظنون أنكم بأفعالكم هذه ستربحون..؟

أبشروا نحن صامدون وسنخفي لمعة الأمل التي في أعيونكم، الآن وسنكسب عتمة المهانة الباردة، ونلفكم بحزن صامت يائس، كأغصان شجرة أنهكها الجفاف فارتضت بالموت..

ويا ليته الموت..؟

وعدت أتلمس ذلك الزجاج الذي يفصل بيني وبين أمل بيدي لتشعر بنيتي بدفء الأمومة، فتسري في شرايينها وتتحسس قلبها فتفتح عينيها ونحتفل بما تشاء عيد الأم.. أو عيد الوطن.. أو عيد عودتها إلينا والذي هو أهم الأعياد.

  


في الإثنين 24 مارس - آذار 2008 08:01:07 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=3519