الأخيرة: أولاد الشغالات " 1
ياسر العواضي
ياسر العواضي

في البداية اعتذر لكل الشغالات اللاتي يجهدن أنفسهن من أجل لقمة عيش شريفة وأيضا إلى أبنائهن الذين رفضوا الاستعارة من هذه المهنة التي هي أشرف من عشرات المهن التي يقوم بها البعض اليوم.

طبعا المصطلح الذي استخدمته في كتابتي هذه هو في الأصل مصطلح سمعناه وشاهدناه كثيرا في المسلسلات والمسرحيات المصرية التي تتكلم بعضها عن أولاد الشغالات الذين يريدون أن يصنعوا لهم مستقبلا مختلفا عن أبناء الذوات الذين يريدون أن يحافظوا على العز الزائف الذي صنعه آباؤهم لهم دون أن يتكلفوا عناء صناعة مستقبلهم بأيديهم، ولا شك أن الشغالة التي تعيش في سرايا الباشا وتخدمه تمضي وقتا طويلا هي وأولادها مع الباشا وأولاده الذين يشفقون عليها أحيانا من الجهد الذي تبذله في خدمتهم والذي يرون أنه واجب عليها لا فضل لها فيه وتأتي أحيانا فيضانات الشفقة تلك بأن يعطوها بقايا طعامهم الدسم التي لا تخلوا من عظمة وشحمة وقد يتفضل الباشا أو زوجته أو ربما بشوات المستقبل الصغار بإعطاء قميص أو ثوب قديم لم يعد مناسبا لابن الباشا ويهدوه بكل منة لابن الشغالة المسكين وهذا يساعد الباشا على تخيل الصورة كما يريدها وهي أن أولادا لشغالة يأكلون نفس أكل أولاده (بقايا الطعام) ويلبسون نفس ملبس أولاده (القديم) ويشعر برضى كامل لعدالة ما يقوم به وهو يعرف أن هذا غير صحيح، لكنه يحاول أن يقنع نفسه بذلك لينام وهو -كما يعتقد- مرتاح الضمير لم يعد يحمل هم رمي الملابس القديمة أو فتات الطعام الذي غالبا ما تأكل الشغالة وإبنها جزءا منه مع كلب الحراسة الذي يأكل الجزء الأفضل مما تبقى من طعام الباشا وتنام المسكينة وابنها وهما شاعران بالسعادة والامتنان الكبير لما منحهما إياه الباشا وأولاده ويظلان بهذا وفيين لهم مدى الحياة وتظل الشغالة تؤكد لابنها أن لحم أكتافه من خير الباشا وعليه أن يظل وفيا له دائما ولأولاده وربما لأولاد أولاده، ذلك هو جزء من إحدى القصص التي نشاهدها أحيانا في التلفاز ونعتقد أنها مجرد فن روائي لا غير وهذا ما يراه معظم أبناء الشغالات في كل العزب.

لكن ما يراه أبناء الذوات غير ذلك فهم يعتقدون أن ذلك هو تعبير عن ما يجب على غيرهم القيام به نحوهم ولا شك أنهم مع تطور العصر قد يستخدمون بعض أساليب الحداثة للإقناع مثل الإعلام والمال لكنهم لا يستغنون أبدا عن السياط لإقناع من يرون أنهم أبناء شغالات بعبوديتهم لهم في حال فشلت الوسائل الأخرى ويعتبرون أن استخدام السوط كوسيلة أخيرة تطورا عن آبائهم الذين كانوا يستخدمونه كوسيلة وحيدة ولكن هذا ليس هو المؤسف فالمؤسف حقا أن يتذكر بعض من يعتقدون أنهم أبناء شغالات وصايا أمهاتهم بأن لحم أكتفاهم من خير البشوات ويؤمنون بذلك حقا أو (يمثلونه) ويتفانون في التسابق للإخلاص لهم حتى ولو لم يتبق على عظام أكتفاهم لحما أصلا ويظل هذا شأنهم طالما قبلوا به كما قد يقول البعض.

ولكن هذه إن كانت هي القاعدة التي بناها اليأس والخوف فإن لها استثناءات عدة عند كثير من الذين يرون أن القدر الذي جعل أمهاتهم عاملات بكدهن وعرقهن للعيش والصرف على أبنائهن بكل عفة وصون وعزة وكبرياء هو نفسه الذي سيجعلهم يخرجون من طور اليأس والخوف إلى طور الأمل والإقدام لتخطي ذلك الواقع الذي فرضته ظروف الغلبة في وقت ضائع من زمن الخذلان ومن المؤكد أنهم سوف يجهدون ويناضلون من أجل صناعة مستقبل لهم ولأولادهم (أحفاد الشغالات) ليس كما يريده أبناء المترفات (الغير شغالات)، وعندما يصبح الزمن هو زمن العمل والشغل فأكيد أن من تربوا عليه مع أهلهم منذ صغرهم سوف يكونون في المقدمة وأولئك الذين لم يعودهم آباؤهم ولا أمهاتهم على الشغل سوف يصبحون في مأزق وهذا ما يجعلهم يخافون من هذا الزمن ويسعون بكل قوتهم بأن يظلوا في زمن اللاشغل الذي يجعلهم هم الأسياد ولكن هذا يعود إلى مدى قدرة الشغالين على فهم أهمية الوصول إلى هذا الزمن والذي لا بد أن تدور العجلة باتجاهه مهما تأخرت. وهنا فإن الحكمة تقتضي أن يعلم البعض أبناءه كيف يحترمون الآخرين وألا ينظرون لأنفسهم أنهم أولاد ذوات وبقية الناس أولاد شغالات حتى لا تتوسع دائرة الانتقام عليهم عندما يستقيم الزمن ويصبح الأمر سويا ولا شك أن من ينظر إليهم على أنهم أولاد شغالات مطلوب منهم المبادرة والعمل لذلك الهدف وخصوصا إذا علموا أن الأموال التي يشتغلون فيها والأملاك ليست لأولاد الذوات أصلا وإنما هي لهم أخذت على آبائهم من قبل البشوات في زمن غابر والأوجب عليهم استعادتها رغم أن الجزء الأكبر من المشكلة ليس عند أولاد الشغالات لأنهم يعرفون أنهم أبناء شغالات وقد لا يكون لدى البشوات الذين يعرفون الحقيقة جيدا، بل قد تكون المشكلة عند أولاد البشوات الذين لا يعرفون أن آباءهم كانوا أصلا من أولاد الشغالات.

*عضو مجلس النواب


في الأحد 27 يناير-كانون الثاني 2008 07:10:03 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=3238