في السلطة والنفوذ والظلم: سلف وقضاء
صادق المولد
صادق المولد

مارب برس – نيويورك – خاص

مشهد أول:

قيل للخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، وهو على فراش الموت: أفقرت أولادك ولم تترك لهم شيئاً، أفلا تأمر لهم بشيء؟ فاستدعاهم وأدخلوا عليه وهم إثنا عشر ولدا وست بنات. ونظر عمر إليهم فبكى وهو يقول: بنفسي الفتية أتركهم فقراء لا شيء لهم، ثم قرأ قوله تعالى ''إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين'' وقال: بل بحمد الله أتركهم بخير.

أما الخليفة هشام بن عبد الملك فقد عرف عنه البخل وحب المال وكنزه، فلما مات ترك أحد عشر ولداً ورّث كل منهم مليون دينار ذهبا.

وتمر الأيام بعد كلا الرجلين، ليشهد شاهد الناس على أن الله حفظ عمر في أولاده وأغناهم، حتى كان يمر أحدهم بموكب كمواكب الملوك، ويشهد شاهد الناس أيضا أنه رأى بعض أولاد هشام واقفا أمام المسجد يتسول الناس!

مشهد ثان:

 بعد أن تمكن الخليفة العباسي المنصور من تقويض ملك بني أمية، أطلق يد عمه عبد الله بن علي - وكان سفاحا لا يعرف الرحمة - في معا قبة الأمويين، ففعل عبد الله ذلك وتتبع ذرية الأمويين يقتلهم حيث لقيهم، حتى قتل منهم واحد اثنين وتسعين ألفاً في الرملة، ثم جمع بعضهم وجلس عليهم مع أصحابه يأكلون ويشربون وهم تحته يختلجون الموت .

وتمر الأيام كعادتها، ويشعر عبد الله بن علي بالامتعاض لوجود أبن أخيه المنصور في رأس الخلافة يستمتع بها دونه، وهو الذي ثبّت أركانها، فثار على المنصور، إلا أن ثورته فشلت فأعتقله المنصور وأرسل إليه من يقتله. ودخل عليه القاتل فوجده في السرير مع جارية له فخنقه خنقا شنيعا، ثم قتل الجارية ولف الجثتين في لحاف واحد وهدم فوقهما البيت، منهيا بذلك أسطورة عبد الله بن علي أعظم قادة العباسيين وأشدهم سفكاً للدماء.

***

بين تلك المرويات والأمثولة الشعبية – بتحوير يستلزمه الأدب - أن ''من كان أبوه يظلم الناس، كان القضاء في عياله'' يدرك الناس أن المداينة في الحياة سنة لله ثابتة، لا يوقفها سلطان ولا يلوي عنقها نفوذ أو جاه ومال، وهي بعد ذلك حكمٌ لله نافذ يذيق به الظالمين ويلات ظلمهم ولو بعد حين.

***

لا يستدعي هذه الكلمات شيء أكثر مما يستدعيها تفشي الاستغلال والظلم والحيف والفساد والفوضى، وظهور طبقة ارستقراطية منسخلة تماما عن الأمة اليمنية وروحها؛ طبقة تعاني من تضخم الذات متقوقعة تقوقعا حادا حول مصالحها الآنية المباشرة، ضاربة عرض الحائط بمصير شعب ومستقبل أجيال بأكملها.

واليوم يعاين اليمنيون اتساع نطاق ظاهرة مريعة وغريبة تماما عنهم كمجتمع مسلم أولا وشرقي محافظ ثانيا: ظاهرة تفكك منظومة القيم التقليدية (بما تشمله من قيم الخير والإيثار والبذل والمساعدة والتسامح والتعاون والترفع عن الصغائر والشرف) و انهيارها بالتالي انهيارا تدريجيا تحت ضغوط العوامل الاقتصادية من تفشي الفقر وتزايد معدلات التضخم وانعدام فرص العمل وضعف الدخل، التي تكاد تقوض مقومات الحياة الإنسانية الكريمة على هذه الأرض تقويضا هائلا.

 

وتزيد العوامل الأمنية والثقافية والاجتماعية من سرعة انتشار هذه الظاهرة المقلقة ومن حدتها أيضا. فالانفلات الأمني الذي تزداد وتيرته وتتسع دائرته اتساعا مطردا مع انحسار دور الدولة المدنية - نظرا لضعفها - في المحيط المباشر لحياة المواطنين؛ الأمر الذي بدأ يقود فعلا – وإن بطيئا ومحدودا حتى الآن - إلى فقدان الثقة بالدولة و ضعف الانتماء إليها وهو الأخطر. 

إن هزيمة الدولة المدنية أمنيا أمام البنية القبلية المتغولة، أدى بدوره إلى ظهور عصابات النافذين والمغتصبين للحقوق بالإضافة إلى انتشار ظاهرة العنف المضاد في الدفاع عن الحقوق وتحصيلها؛ الأمر الذي يؤدي إلى وقوع الفرد والمجتمع المدني تحت الضغوط المباشرة للعصبيات الاجتماعية والمناطقية والمذهبية، مما بات يهدد تهديدا حقيقيا بزعزعة السلم والأمن الأهليين ونكث كامل النسيج الاجتماعي للبلد - وهي كارثة محققة لن ينجو منها أحد.

ويبقى العامل الثقافي، بعد ذلك، هو أكثر العوامل إثارة للدهشة، فالانفتاح الكبير والمفاجئ للمجتمع اليمني على العالم الوافد فضائيا، سمح لهذا الوافد أن يخترق المحرم الاجتماعي دون صخب، وبدون إبداء أدنى ممانعة حقيقية من قبل المجتمع ذاته نظرا لعدم تملكه المقومات الفعلية للممانعة بسبب قصور الرؤية وضعف موارد الثقافة ومؤسساتها من مكتبات وجمعيات.

ويبقى العامل الاجتماعي - متقاطعا مع العامل الاقتصادي والثقافي – هو العامل الأكثر نخرا في بنية هذه الكيونية الوطنية، فهو متمثلا بضعف التوعية بخطر تزايد نسبة العنوسة وطغيان مفاهيم اجتماعية بائدة من المفاخرة والمبالغة في تكاليف الزواج ومتطلباته، مترافقة بارتفاع نسبة البطالة والتضخم، نقول أدى كل ذلك إلى ضعف القيم العائلية التقليدية وانتشار الانحلال الأخلاقي بين فئات المجتمع الشابة، بالإضافة إلى ظاهرة العار المسماة ''الزواج السياحي'' الذي يمثل دعارة منظمة مقننة حقيقية أو تجارة رقيق في أحسن حالاته.

***

أمام هذا الواقع المزري، يبرز السؤال الأهم: من المسؤول؟

أنا أقول أنه الرئيس أولا وأخيرا- لأنه انشغل بتثبت سلطته وبناء مملكته عن بناء الدولة اليمنية الحديثة ولثلاثين عاما كاملة! مع ذلك فهو ليس المسؤول الوحيد!

فهناك – من بعده - يأتي مساعدوه المخادعون، والحكومات المتتابعة لأصحاب المصالح المتشابكة، ومجلس النواب الذي يمثل – مع استثناءات نادرة - الطبقة النافذة فقط، وهناك المعارضة النرجسية المحكومة بمصالحها، التي لا تمتلك القدرة على الالتصاق بمواطنيها ولا تجرؤ على مغادرة غرف مقراتها خشية إغضاب النظام. ثم هناك مشايخ المناطق الذي حولوا البلد إلى إقطاعيات وسلطنات خاصة، ثم هناك المسؤولين الذي استغلوا مراكزهم لابتزاز مواطنيهم والاستيلاء على حقوقهم، والمتاجرين بعد ذلك بكل شيء، ثم هناك الجيش الذي تخلى عن دوره المقدس ورضي أن يدخل مستنقع السياسية القذر ليلعب دور المرتزق في دوائر الاستقطابات والنزاعات الشخصية جدا والبعيدة كل البعد عن الوطن وشأنه، ومن ثم هناك أيضا المواطن السلبي الكسول المتكلس على نفسه، الذي قبل الوصاية من الشيخ، المواطن المحجم دائما عن مساءلة من يدفع لهم مرتباتهم ويحصلون على امتيازاتهم من قوته وقوت أطفاله.. يترك الدولة ''لهم'' راضيا من يومه بغنيمة ربطة القات..ناسيا أو متناسيا ربما أن هذه الدولة ليست دولة الرئيس وحده أو الوزير أو المسؤول أو الشيخ ، لكنها دولته هو أولا وأخيرا وأنه عمودها ومرتكزها، وأنها وأرضها هي حاضره ومستقبل أبناءه.

الجميع مشارك – بدرجات مختلفة - في المشكلة..وهذه هي الحقيقة.

***

ومع أني أقول بمشاركة الجميع في خلق هذا الواقع المأزوم بحق، فإني - مع ذلك - أقر أيضا أن معضلة اليمن الخالدة كانت دائما في النخبة الحاكمة ودوائر النفوذ المحيطة بها. وقوام هذه المعضلة – في اعتقادي - هما عاملان لا غير: الأول هو أن مسؤولي البلد هم تجاره أيضا، والثاني هو وجود مراكز قوى ذات امتيازات واسعة وتأثير قوي، لا تتولى مسؤولية رسمية مباشرة، إلا أنها – مع ذلك - تحكم فعليا دون أن تخشى التاريخ والمساءلة. ولعل فترة الرئيس الحمدي كانت هي فترة الانقطاع الوحيدة في المجرى التاريخي لهذين العاملين، ذلك أن الرئيس الحمدي - بحسب تعبير الأديب دماج - كان أنضج من تولى الحكم فاستطاع تحديد العاملين وعمل على معالجتهما معالجة جذرية وشجاعة، الأمر الذي أدى إلى تحقيق نتائج سريعة على الرغم من قصر فترة رئاسته.

***

يبقى لي أن نقول لمن اتخذوا السلطة وسيلة للتسلط – بحسب تعبير الرئيس الحمدي - وللمتنفذين والمفسدين،وكل من يقف حجرعثرة أمام تقدم هذا الوطن وشعبه،

لمن أذلوا شعبهم وأجاعوه، وسلبوه حقوقه وإنسانيته،

لهم جميعا:

الدنيا يومان فقط:

لكم اليوم..ولنا غدا

وسيلفظكم التاريخ ونلفظكم،

وستموتون أنتم: أوثانا كريهة..

ومن بعدكم سيبقى أبنائكم وأحفادكم ..

يقضون عنكم ديون فسادكم وإفسادكم: لعنات وحسرة.

مركز الراصد الإعلامي – نيويورك

Sadek76@gmail.com

 


في الخميس 17 يناير-كانون الثاني 2008 01:16:39 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=3183