انها مقاومة ولا مكان للوسطاء
عبد الباري عطوان
عبد الباري عطوان

تحولت قضية الجندي الاسرائيلي الذي اسره رجال المقاومة يوم امس الاول الي حدث عالمي، حيث تسابقت الحكومات العربية قبل الاجنبية، للمطالبة باطلاق سراحه فورا، وكأنه طفل بريء ضل طريقه الي الاراضي الفلسطينية. 

  

المطالبون باطلاق سراح هذا الجندي ينسون انه كان داخل دبابة اسرائيلية، ويستعد لاقتحام مدينة رفح وقتل العشرات من ابنائها، اي انه لم يكن في مهمة انسانية 

  

يوزع الحلوي والهدايا علي اطفالها. 

  

القوات الاسرائيلية اقتحمت المدينة نفسها قبل يومين فقط، واختطفت عنصرين قالت انهما من حركة حماس ، ولم نسمع صرخة احتجاج واحدة من اي حكومة غربية علي اعمال القرصنة الاسرائيلية الرسمية هذه التي تمت في وضح النهار. 

  

الرئيس المصري حسني مبارك الذي يرسل وفوده الامنية الي قطاع غزة ممثلين للحكومة الاسرائيلية، وحاملين تهديداتها بالاجتياح في حال لم يتم الافراج الفوري عن الجندي، لم نسمع اي ادانة من جانبه للمجزرة الاسرائيلية التي ارتكبها صديقه ايهود اولمرت علي شاطيء قطاع غزة، او الثانية التي وقعت بعدها بيومين في مدينة خان يونس وكان من بين شهدائها اربعة اطفال. 

  

ماذا سيخسر ابناء القطاع اذا اعادت اسرائيل احتلاله، فهم يواجهون الجوع بسبب عدم دفع الرواتب، والبطالة بسبب اغلاق المعابر امام منتوجاتهم الزراعية واياديهم العاملة، والتوغلات وعمليات الاغتيال الاسرائيلية شبه اليومية لنشطائهم. 

  

اعادة الاحتلال ستسمي الاشياء باسمائها، وتضع حدا لأكذوبة اسمها السلطة، خدعت العالم بأسره قبل ان تخدع الشعب الفلسطيني، واعطت انطباعا بقيام شبه دولة ووجود شبه رئيس وشبه حكومة واشباه وزراء، بينما الواقع هو احتلال بغيض، وسجن كبير لاكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني يواجهون شتي انواع الاذلال علي المعابر التي ما زالت الدولة العبرية واجهزتها الاستخباراتية تتحكم بها، وتملك الكلمة الاخيرة تجاه من يعبر او لا يعبر. 

  

الحكومة المصرية توسطت قبل عامين لدي رجال المقاومة لتسليم رأس جندي اسرائيلي قتل في احدي العمليات، ووصل اللواء عمر سليمان الي غزة من اجل هذه المهمة السامية، ولكن ماذا حدث بعدها؟ حدث اغتيال جميع افراد المجموعة وتدمير اكثر من مئتي منزل في مدينة رفح نفسها من قبل البلدوزرات الاسرائيلية. 

  

العملية الفدائية التي استهدفت القوات الاسرائيلية في معبر كرم ابو سالم جاءت نوعية بكل المقاييس وتكشف عن دقة كبيرة في الاعداد والتنفيذ، الامر الذي يؤكد عبقرية فصائل المقاومة وقدرتها في الوصول الي اهدافها بكل سهولة ويسر. 

  

القوات الاسرائيلية تملك تفوقا عسكريا هائلا علي الارض، من دبابات متقدمة وطائرات استطلاع ومروحيات، ولذلك خرجت لها هذه المجموعة الفدائية من تحت الارض مثل الجن، والحقت بها خسائر مادية ضخمة ومعنوية اضخم. 

  

ليس صحيحا ان الذين نفذوها ارادوا نسف الحوار الوطني، والاتفاق الذي كان وشيكا بين رئيس السلطة محمود عباس ورئيس وزرائها اسماعيل هنية، فعملية الاعداد لها، وحفر النفق الذي استخدم في تنفيذها بدآ قبل نضوج فكرة الحوار، وتهديدات الرئيس عباس باللجوء الي الاستفتاء. 

  

اشتراك كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس في هذه العملية الي جانب لجان المقاومة الشعبية والجيش الاسلامي، هو دليل واضح علي انتصار الجناح المتطرف الرافض للانخراط في العملية السياسية القائمة علي ارضية اتفاقات اوسلو، والمتمسك بثوابت الحركة في عدم الاعتراف بالدولة العبرية، واتفاقات السلام الموقعة معها.  

  

ان اكبر خطأ ارتكبته الولايات المتحدة واوروبا هو قبولها بوجهة النظر الاسرائيلية المطالبة بقطع المساعدات عن حكومة حماس وعزلها عربيا ودوليا، فلم تظهر كما لو انها تعاقب الشعب الفلسطيني علي خياره الديمقراطي الحر والنزيه، وانما ايضا عملت علي اضعاف الجناح المعتدل في الحركة الذي اصر علي خوض الانتخابات التشريعية، والالتزام بالهدنة ووقف كل العمليات الفدائية والاستشهادية منها علي وجه الخصوص. 

  

الشعب الفلسطيني تكيف مع الجوع، وبدأ ينسي تدريجيا مسألة الرواتب، ويتعايش مع الحصار المفروض عليه، ولهذا بدأ هذا الحصار يعطي نتائج عكسية، فبدلا من اسقاط حكومة حماس وتعزيز سلطة الرئيس عباس وحزبه، التف الشعب الفلسطيني بصورة اكبر حول هذه الحكومة لانه دائما يقف الي جانب الضحية، والطرف الاضعف وهي سيكولوجية عربية واسلامية يصعب علي الغرب فهمها. 

  

اولمرت سيستمر في التهديدات وسيواصل حشد الدبابات والدروع علي حدود قطاع غزة، وستستمر ايضا الوساطات العربية ولكن المؤمن الفلسطيني لا يلدغ من جحر السماسرة العرب مرتين. فادارة الأزمة الحالية تبدو مختلفة عن المرات السابقة، فقد تحرك اهالي الاسري في مظاهرات تطالب بعدم الافراج عن الجندي الأسير قبل الافراج عن فلذات اكبادهم. كما ان المجموعة التي اسرته رفضت ان تدلي بأي معلومات عنه قبل الافراج عن كل النساء والاطفال في المعتقلات الاسرائيلية. 

  

وربما لا نبالغ اذا قلنا ان اسر هذا الجندي هو الذي عطل الاجتياح، واعطي حركات المقاومة مساحة اكبر من الوقت للاستعداد لمواجهته وحشد الرأي العام العربي والعالمي ضده من خلال ابراز مسألة الأسري الفلسطينيين الذين يفوق عددهم العشرة الاف وبينهم اطفال. 

  

حزب الله افرج عن خمسمئة من المعتقلين اللبنانيين والعرب مقابل رفات جنود اسرائيليين قتلوا في لبنان، والشيء نفسه فعلته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة في مطلع الثمانينات في اطار ما سمي في حينه عملية النورس لتبادل الأسري. 

  

اجتياح القطاع قد لا ينجح في انقاذ حياة هذا الجندي الاسير، بل قد يحدث عكس ذلك تماما، اي ان يتعرض للقتل هو ومجموعة اخري من الجنود الاسرائيليين. فالمقاومون في القطاع يملكون قذائف مضادة للدروع، ومن غير المستبعد ان يكونوا قد زرعوا الغاما ضخمة للدبابات المغيرة لاصطيادها او بعضها مثلما حدث في اجتياحات سابقة. 

  

ندرك جيدا ان ارواحا بريئة ستسقط شهيدة اذا ما اقتحمت الدبابات قطاع غزة، ونشعر بالحزن وشديد الاسف علي ذلك، ولكن لعل الخير يأتي من باطن الشر، ولعل الزعماء العرب وجيوشهم الذين لم يحركوا ساكنا لعويل طفلة شاطيء غزة، ولم تنظم شعوبهم مظاهرة واحدة احتجاجا، لعل بقايا نخوة تتحرك فيهم، ويتعاطفون مع اسري قطاع غزة مثلما يتعاطف بعضهم مع الجندي الاسرائيلي الأسير.


في الأربعاء 28 يونيو-حزيران 2006 12:07:11 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=292