الفيدرالية هي الحل
وضاح المقطري

مأرب بر س- خاص

كون الوحدة منجزاً وطنياً، وامتيازاً حضارياً؛ فإن ذلك ليس سبباً كافياً لشرعنة ما يحدث باسمها، ولا يؤيد الإقصاء والاستعلاء والطرد من رحمتها بها. ولأنها تتعرض اليوم لاختبار صعب؛ ينبغي دراسة جدواها، وقابليتها للاستمرار في ظل وضع ينفجر في وجوه الجميع، تاركاً ألف احتمال لألف نكسة قد تصيب الجميع بلا شفقة.

فالوحدة التي بزغت في الفكر الوطني منذ فترة مبكرة، لم تكن وحدة الجغرافيا فحسب، ولم تكن هي الغاية فقط، وإنما اتخذت شكلاً لتحقيق الأمن والرخاء لعموم الوطن، وبداية الطريق نحو وحدة عربية (هي المستحيل نفسه)، وتمكنت من الإمساك بتلابيب وعي وتفكير اليمنيين بلا استثناء، برغم الكثير من التحفظات على شروطها وإمكاناتها ومستقبلها.

لاحقاً، وبعد تحققها، وما نتج عنها من حرب وتنكيل، وتزوير للتاريخ، وقلب للحقائق، وإلغاء وتهميش لأحد طرفيها، وكل من وما هو محسوب عليها؛ صارت الوحدة إشكالية مربكة، وحقيقة غامضة، سقطت عنها كل معاني الأمن والرخاء المفترضة، وصارت لدى الطرف المهزوم شوكة في الحلق، إن هتف باسمها استنكره الألم والجوع، وإذا شكا ألمه جلدته سياط الثوابت، وهي أهم تلك الثوابت.

المسألة اليمنية عموماً شائكة ومعقدة ومختلطة ومربكة. فلو افترضنا عدم وجود الجنوب فيها، أو فصلنا بين الشمال والجنوب، لوجدنا الشمال وحده يعج بالمتناقضات والاحتقانات التي لها أكثر من سبب، أهمها -بالطبع- بنية النظام السياسي التسلطي القائم، وما يترتب على ممارساته من ظلم اجتماعي وتمايزات مناطقية واستعلاءات ورغبات في السيطرة والنفوذ والامتلاك في مواجهة رؤى حداثية، ورغبات بسيطة في العيش الكريم، والوجود الحقيقي على خارطة العالم.

ربما أسرفت هنا في استخدام مفردات لمفاهيم مطاطة (الأمن، والرخاء، والسعادة،...)؛ بيد أن الموضوع الذي أحاول أن أساهم به في نقاش المسألة اليمنية عموماً، يأتي من كون المسألة مرتبطة بمفاهيم من هذا القبيل، وبالتالي فإن هذه المفاهيم ليست هي المحور هنا، بقدر ما هي معنى ما يبحث عنه الجميع بأقل الخسائر الممكنة.

ولذا يجدر بنا أن نعيد دراسة جدوى الوحدة كامتياز وطني وحضاري وثقافي، لا لوضعها على محك الاستغناء عنها أو رفضها، بل على سبيل الخروج بها إلى الممكن بتجاوز الآثار الناجمة عن كونها صارت واقعاً لا ينبغي التراجع عنه، مع الأخذ بعين الاعتبار أنها مثل ما هي حقيقة حضارية وثابت وطني (لدى البعض)، فإنها بالمقابل ليست كياناً مقدساً تقدم الكرامة البشرية قرباناً له، وتفنى لأجله الأرواح مجاناً في مواجهة عدوٍّ يزايد بها وهو أبعد الجميع عن معناها.

ربما يتميز المجتمع اليمني بوجود الكثير من الانسجام والتناغم في مكوناته؛ بيد أن هذا التناغم ليس مطلقاً، ولا مبرراً لعدم القول بوجود اختلالات كبرى في بنيته، وحيلولتها دون تكوين وحدة وطنية تامة؛ فاليمني يعيش الكثير من التناقضات في الحراك اليومي، وتتداخل لديه الرؤى والتوجهات، ويشعر بالكثير من الظلم، أحياناً وهو في موقع الظالم، أو على الأقل في الطرف الظالم، وليس الجنوبي وحده من يشتكي من الظلم الفادح والجور والانتهاك، فالتهامي يجد في القادم من صنعاء ناهباً لأرضه، والآتي من تعز محتلاً لمكانه في العلم أو الوظيفة، فيما يعتقد الساكن في أرياف صنعاء أن أصحاب "مَنْزَل" امتلكوا العلم والثقافة، وكانوا سبباً في حرمانه من الدخول في معترك الحضارة، أو أنهم يشكلون خطراً على هويته وتقاليده، فيما يعاني الصعداويون (مواطنو صعدة) من الإبادة بسبب معتقدهم -كما يتم الزعم- عبر حرب طائفية... وغير ذلك من التناقضات التي في حقيقتها ليست أكثر من خللٍ في البناء الاجتماعي وتوزيع الثروات، وإصرار أطراف المعادلة السياسية على بقاء الوضع على ما هو عليه ثقافياً واجتماعيا، في حين أن اليمني مهيأٌ لأن يكون نقيضاً للطائفية والمناطقية لولا أن الأمر ليس بيده.

والسؤال الذي أُنهي به هذه المقدمة لأبدأ محاولة الإسهام في نقاش حلول المسألة اليمنية في ضوء الاحتقانات الأخيرة، هو:

ماذا عن فيدرالية يمنية ممكنة وقابلة للتوطين؟

من شأن اتحاد فيدرالي أن يؤدي إلى توزيع السلطات من المركز وحتى الأقاليم، أن يمكن تحقيق الأمن والاستقرار المطلوبين بإبطال كافة مشاريع العنف، ومحو آثار الصراعات والحروب السابقة، وإزالة الاستعلاء والإلغاء والمصادرة تجاه مناطق بعينها، ولصالح أخرى، وذلك بإعطاء الأقاليم ما ينبغي لها لتكوين خصوصيتها ونظمها وقوانينها الخاصة والمستقلة بشكل غير كامل عن القوانين المركزية، والاعتماد على ما يمنحها دستور فيدرالي من إمكانات. وفي ما عدا ذلك سيكون ثمة أولوية للقوانين المركزية، وبالذات في ما يخص توزيع الثروات والبنية التحتية، والمنشآت النفعية العامة: كهرباء، مياه، موانئ، مطارات...

إن عدالة توزيع قائمة على أساس فيدراليٍ ستحد بالتأكيد من قدرة الحكام في المركز على الاستئثار بالقرار أو إلغاء الآخرين وإقصاء الأطراف، فتنفتح فرص الإمكانات اللازمة (وربما الفائضة) للتطوير والتأهيل المحلي للقوى البشرية، وإدماجها في عملية التنمية مباشرة، والمشاركة الفاعلة في الحياة السياسية والاجتماعية، وإتاحة الفرصة للمزيد من الحريات والحقوق.

ربما تحاول القوى السياسية اليمنية الهروب مما تسميه "الفتنة" التي ستؤدي إليها الدعوة إلى الفيدرالية، إلى الدعوة إلى حكم محلي واسع الصلاحيات. والفتنة المقصودة هنا هي ما ستعتبره السلطة دعوة لتقسيم البلد، وستحرض ضده ودعاته باستغلال ندرة الوعي بمثل هذه المصطلحات. لكن الدعوة إلى حكم محلي واسع الصلاحيات ليس سوى محاولة لتجميل الواقع بالممكن، والبحث عما هو أقرب وأسهل، وهو -في رأيي- ليس سوى كسل عن السعي، وجبن عن المواجهة؛ فالحكم المحلي الواسع الصلاحيات لن يلغي المركزية إلا قليلاً، وسيحتفظ للمركز بصلاحيات واسعة تبقى الشكوى في ظلها مستمرة من الاستئثار بالقرارات، وسينتج عن ذلك -بعد حين- مشاعر الدونية والتهميش لدى الأطراف، وستبقى غالبية الخدمات وأفضلها مقتصرة على المركز، وما يليه حسب الأهمية المفترضة، وسيكون لكل طرف رغبته في تحقيق تكوينه الخاص مثل المركز أو أكثر.

إن حكماً محلياً واسع أو كامل الصلاحيات لا يعد حلاً للمشكلة اليمنية، كون هذه المشكلة تتجذر في التعدد والتنوع اليمني الموغل في عراقة الخصوصيات التاريخية والثقافية للمجتمعات المحلية، وهي الخصوصيات التي يصعب طمسها أو تجاوزها أو القفز عليها، وما يحدث حالياً من احتقانات وتصاعد في الاحتجاجات يدلِّ مباشرة على فداحة الدمج القسري لعددٍ من المجتمعات المتمايزة فيما بينها جغرافياً وثقافياً، وإدراجها ضمن مركب واحد يعترف دائماً بالمركز وخصوصياته، ويضع بقية الخصوصيات والمكونات الثقافية كتنوع على لونه المهيمن.

في إحدى قمم مجموعة الدول الثمان الكبار ذهب رئيس الجمهورية مرتدياً الزي التقليدي لمناطق شمال شمال اليمن، ووقف أمام كاميرات تلفزيونات العالم مختصراً إحدى أهم المعالم الثقافية اليمنية المتنوعة في مظهره، ومهمشاًَ عدداً من خصوصيات المجتمعات المحلية الأخرى، التي تتميز في زيها تميزاً واضحاً ومتنوعاً من الحديدة وحتى المهرة، وهو نفس ما يحدث أثناء المشاركات الخارجية اليمنية في المهرجانات الفنية الفلكللورية، ونفس ما تمارسه أيضاً القناة الفضائية اليمنية (قفي) حين تختصر فن العمارة اليمنية في مشاهد من صنعاء القديمة، وتقدم فنون الرقص والغناء والأزياء الشعبية والمهن الحرفية اليدوية وكأن صنعاء هي كل اليمن.

اقتصادياً لا يختلف الأمر كثيراً، ودون الخوض في التفاصيل فإن السعي الرسمي إلى تنميط كافة المناطق إنتاجياً وفق النمط المركزي، والدفع بمجتمعات المناطق البعيدة عن المركز – وخصوصاً الجنوبية والشرقية – نحو الاعتماد على الذات في الكسب والاسترزاق – مع سياسة الإستيلاء والنهب لروافد الأنشطة الأقتصادية الممكنة، والتخلي عن دور الدعم والرعاية المفترضين من قبل السلطات؛ قد أدى إلى وقوع هذه المجتمعات تحت طائلة الفقر المهيمن، وكلفها الكثير من التنازلات لكنه وفي النهاية، دفعها نحو الرفض والإحتجاج.

إن تجريم الدعوة إلى الفيدرالية اليمنية من جهة، والإصرار على تقديم مشروع الحكم المحلي الواسع الصلاحيات من جهة أخرى؛ لا يمثلا سوى تجنياً مستمراً على حقيقة مفادها التنوع الثري في الخصوصية اليمنية، والتعدد الإيجابي – الذي بالمحافظة عليه، يجعل المجتمع أكثر تماسكاً وفاعلية وقدرة على الخلق والإبداع.

ولذا يكون الحكم المحلي – الذي يتم الدعوة له وإعداد قانون مشروعه بمشاركة ألوان الطيف السياسي – غير قادر على تحقيق الشراكة الوطنية إلا كشكل مختل المضمون، وخصوصاً في ظل نظام سياسي يختصر البلد في المركز، ويختصر المركز في شخص الحاكم المتعالي على كافة الفعاليات المدنية، وفي ظل التهافت والتسارع إلى "قبألة" الحياة المدنية، بل والهيمنة على المجتمع المدني وأحتكاره، وتسويق مشاريع البداوة، وإعلاء نبرة الخطاب الطائفي نحو أقليات دينية، وتوجيه حراب الثوابت الوطنية (ثوابت الحاكم) إلى صدور المطالبين بحقوقهم البسيطة والعادية.

وفي ظل نظام سياسي كهذا يلاحظ إن الخطاب الطائفي أخذ حيزاً على خارطة الحدث اليمني، وبرغم أن الصراع الذي دار في صعدة كانت له أبعاده السياسية والاقتصادية الواضحة، إلا إن ورود الطائفية فيه كمبرر أحياناً، وكقضيةٍ رئيسيةٍ أحياناً أخرى؛ يضع الجميع أمام احتمالات استخدام خطابات شبيهة في كافة الصراعات القادمة المحتملة، وعلى هذا ينبغي التفكير في إيجاد حل لمشكلة الأقليات الدينية، والحد من الاضطهادات الموجهة نحوها، وكسر حدة خطاباتها المضادة، ولن يتأتى ذلك سوى بفيدرالية تعطي كل المجتمعات خصوصيات كاملة، ومواطنة غير منقوصة.

يمكن ملاحظة أن الفرد اليمني بطيبته – وربما بسذاجته – ميالاً إلى التشبث والتتيم بالقيم، ونتيجة تناقضات الواقع فهو الأكثر توجهاً نحو الشذوذ عن هذه القيم، وهو أيضاً كثير الاعتراض والجدل بحثاً عن رفاهية فكرية، وحين الحاجة إلى هذا الاعتراض في قضايا مصيرية؛ يحدث لديه التذبذب والتماوج بدرجات لا تؤمن نتائجها، بل ويسهل التأثير عليه سلباً، وسحب البساط من تحت أقدامه قبل أن يدرك فداحة ما كان، كما يلاحظ أن المجتمعات المحلية المتمدنة لم تتمكن بعد من القطيعة النهائية مع البداوة، بمقابل عدم قدرة المجتمعات القبلية والبدوية الاقتراب من التمدن إلا شكلياً في أحسن الأحوال، وهو ما يكثِّف من حالة التناقضات ويدفع باتجاه الخروج عن المسار الطبيعي لتحقيق مجتمع متعدد ومتناغم، كون عدم القطيعة مع البداوة، وعدم ملامسة التمدن، لا يخلقان سوى التنافر والصراع، حتى وإن كان خفياً؛ فإنه مرشح للحضور بقوة، وحل ذلك يكمن في فيدرالية تمنح المجتمعات المتمدنة حرية التمسك بقيم المدنية، والاتجاه نحو غايتها بزخم واضح وفاعل، ويعطي دافعأ لدى المجتمعات النقيضة للتأثر والإسراع بنبذ العادات والتقاليد المعيقة واحتراف العصر.

وإذا ما أدخلنا الجيش والأمن في مربع هذه التناقضات، فسوف نكتشف أن الحكم المحلي واسع أو كامل الصلاحيات؛ لن يعطي لهاتين المؤسستين حرية الانتماء إلى كافة المجتمعات المكونة لنسيج الخصوصية اليمنية، فمشروع الحكم المحلي لا يمكِنَهُما بأي حال من الأحوال الخروج عن هيمنة – ليس المركز فقط، بل أسرة واحدة، وكيانات صغيرة تسخرانهما لحماية مصالحها، وعند الحاجة ستكون هاتان المؤسستان هما الأداة التي ستعيد الأوضاع إلى ما قبل بدأ تنفيذ مشروع هذا الحكم، كما أن المجتمعات التي لم تغادر عباءة البداوة والقبيلة ستظل مستمرة – كما هو الحال اليوم – بمحاولات السيطرة على مفاصل هاتين المؤسستين، وتنصيب أبناءها فيهما من أجل المزيد من القوة والنفوذ، وهو ما يشكل خطراً على بقية المجتمعات التي لا توجد لديها رغبة في عسكرة الحياة المدنية .

بالنظر إلى هذه الإشكاليات، وإشكاليات أخرى لم يتم التطرق إليها؛ سنجد أن الحل يتمثل في فيدرالية تعطي الاعتبار لكافة الفئات والمناطق والمجتمعات المحلية، بالاستناد على مبدأ إيجابية التنوع وإمكاناته الكبرى في التنمية الإجتماعية والإقتصادية والثقافية، وروعة هذا التنوع في خلق الانسجام التام بين مجتمعات ومناطق البلد من أجل عيشٍ كريم للجميع .

والفيدرالية لن تكون سوى صنو الديمقراطية، ورفيقها الأمثل، وإذا كانت هذه المقاربة غير مستوفية لشروطها، وبحاجة لمزيد من استقراء الوضع اليمني، وإدخاله في تفاصيل النقاش دون تجريد؛ فإن قناعة وإسهام كافة القوى الاجتماعية والسياسية والحقوقية والفكرية في إثراء هذه القضية؛ سيدفع حتماً إلى تبنيها كمطلب سياسي وحقوقي، كونها حلاً أسهل وأمثل، ولذا فلا بد من نقاشات ومقاربات أخرى تهتم بالتفصيل أكثر خصوصاً في ضوء الفعاليات الإيجابية والسلبية اللتان تتمان الآن، وتنمان عن وضع خطير لن يرحم انفجاره أحد.


في الثلاثاء 20 نوفمبر-تشرين الثاني 2007 08:43:34 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=2839