كلمات مسكونة بالوجع
نهلة جبير
نهلة جبير
قولوه قولوه الحقيقة بحبه بحبه من اول دقيقة ,,,,, لست متأكدة إن كانت هي أم غيرها من أغاني عبد الحليم حافظ ,التي كان يرددها أثناء عودتنا من مدارسنا الي المنزل , خاصة عند ترجله من السيارة , أتذكر دندناته الجميلة ,فصوته كان شجياً رائعاً عندما يُغني , على الرغم من أن خامة صوته قوية وذكورية , تلك النعومة في دندناته ولطف تعامله ومداعباته لنا ورحابة صدره في تقبل طلباتنا , كانت تجعلني أفكر كثيراً كيف يكون أبي مناضلاً وهو بهذا اللين من الطباع !! كانت في ذهني صورة محددة عن المناضلين , من يشذ عنها لن يكون منهم , صور السياسيين في التلفزيون ,ولغتهم المثقفة وهندامهم المتأنق والنظارات الطبية ,هي الصورة التي ترسخت في ذهني عن المناضل الأشم , حتى عندما كان يتابع نشرة الأخبار المسائية وأسمعه معلقاً (يلعن عارهم) , يتصنم في ذهني ذلك التعليق وأحيك حوله كل شكوكي , هل يعرف أبي كل تلك الأمور السياسية حقاً ولا يرد إلا بذلك التعليق !!! لكن كيف أفسر صداقته وعلاقاته بالأستاذ احمد الشجني , وباسندوة و عادل مقيدح والجفري وغيره!؟! ينتهي تعجبي ذاك في اليوم الثاني , فالدراسة والواجبات تشتت أي حالة أخرى قد تنتابني , فمنذ صفوفي الأولى في مراحل الدراسة وأنا أكافح لتثبيت إسمي وطرح أفكاري ألتي كان يسميها معلمي سابقة لأوانها, وكفاحي ذاك كان ميدانياً وواقعياً أكثر من نضال اؤلئك الذين كان أبي يسميهم (بسارقي المهرة ) , الذين نرى صورهم في الجرائد ولهم كتب ومقابلات صحفية وتلفزيونية على أنهم من رجالات الثورة وجندها الأشاوس , وفي نفس الوقت من ذوي الملايين بل البلايين و القصور والسيارات ووو... , كل تلك الأملاك لمناضلي الثورة أو ليس دخلهم يعتمد على رواتبهم فقط ؟ لذلك كان يسميهم أبي بسارقي المهرة , والمتسلقين على الثورة في مغالطة وقحة للتاريخ !!!! نضالي كان لفرض إسمي الغريب أنذاك (نهال محمود جبير ) , كل عام يخطئ المعلمون في كتابته , تارة نهال وأخرى نهاد حمود وغيرها من الأسماء , إلى أن ثبتته والدتي في الصف الثالث الإبتدائي ليصبح (نهله ) , وأنتهى نضالي بالفشل واستمر إسم نهله معي حتى أكملت الدراسة الجامعية , كنت ألوم الحكومة في صغري (هههه هذا كان اول مفهوم لي عن السياسة ) لمتها لأنها مقصرة, ولم تعين في المدرسة من يجيد كتابة الأسماء,, كلما تذكرت ذلك أغرق في الضحك , لأنني لم أكف يوماً عن لوم الحكومة , ربما لأني كنت أتوقع حدوث نضوجٍ ما ,في مسار تطورنا نحو الأفضل وهذا مالم يحدث يوماً !!!! كانت ولازالت توجهاتي وسطية , فهي هجين بسيط ,إنبثق من وسط بيئي أحد شقيه شافعي والأخر زيدي , تمازجا ليشكلا وعياً لا تطرف فيه , وهو نموذج للمجتمع اليمني المتألف الذي لم يكن آنذاك يعرف التطرف ولا التناحر المذهبي !!!! عامي الدراسي الأول في الجامعة عرفني بأبي أكثر , وعرفت معه معنى الشعور بالتقزم والإنكسار في وطنٍ , يطمسُ أيَ معالم لوجوده في دواخلنا , وطن يسرق الحلم والأمل والحرية ,وينكر علينا حق تنشقه , وحقنا في الأمن والكرامة وهي إستحقاقات المواطنة . في أحد أيام 1996 ـ أصيب أبي بذبحة صدرية , هرعت لإسعافه , وصلت إلى أقرب مستشفى وقد كان مستشفى الكويت العام , الطبيب المناوب لم يمد يده قط لتفحص والدي , بينهما مسافة متر أو أكثر قليلاً مد نظره وأطلق حكمة بالإنجليزية بأن الحالة Expired وكأن الحالة علبة فول منتهية الصلاحية , هذا الطبيب قتل والدي أمامي مرتين , مرةً عند تلكئه في الفحص والأخرى عندما أنكر عليه أدميته لم أبك ولم أصرخ ولم ولم ولم , فقط , كرهت هذا الوطن !!! كرهت فيه لغة التعالي ألتي يتشدق خلفها المسؤولون عما حل به من فساد , وتسويقهم لشخوص وهمية لم تناضل ولم تكافح ولم تكن يوماً, إلا صناعة مافيوية تخدم مصالح فئة معينة ,تتكاتف لتحمي نفسها بجدار طبقي صفوي, لتُطِلّ من فوقه بـِعَتَهِ السلطة والجاه والتاريخ الزائف , فتطلق قهقهاتها المتعالية وتُخرج لسانها بطريقة هزلية لإغاظتي !!!!! ويرحل أبي بهدوء ,لم يُثر أيَ ضجة , كعادته لينٌ وبهيج , لكن وجعه لايزال يرافقني كروح متلبسه ,و(يلعن عارهم) مازالت متـصنـمة في ذاكرتي , قابعة في مركز رأسي , وتتسلل في كثير من الأحيان إلى سطوري لممازحتي فقط للماضي دوماً سطوة ننتشي بها , فهو أساس تشكيلتنا الحالية كيفما كنا , البيئة التي تتَفـَـتَقُ فيها أُولى مداركنا ,تجاربنا , ومعارفنا ,وأهوائنا لنصبح هذا الفلان . يخطأ من يظن أننا ننفصل عن الماضي كلما كبرنا , ماضينا يحفر أخاديده في وجداننا وذواكرنا كتضاريس طبيعية في مكوناتنا الشخصية , إنكارنا لقوة تأثيره فينا مجرد تلاعب عبثي , ومحاولة بائسة للهرب من ذكريات مزعجة مثيرة للوجع والحنق , خاصة إن كانت متعلقة بلحظات الضعف , أو الخذلان ألتي تصيبنا ممن نحب, أو نحو من نحب ,,,,, ذواكرنا ممتلئة حد التجرُع , ومحاولة تفريغها هو ما نقوم به حين نكتب !
في الأربعاء 09 أكتوبر-تشرين الأول 2013 11:35:44 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=22327