هكذا هزمت السرطان
مجلي احمد الجرباني
مجلي احمد الجرباني

لازلت أذكر ذلك اليوم جـيدًا عندما كان عمري أربعة عشر عامـــًا.. كـنت في طريقي إلى غرفة العمليات وأنا ممتد فوق سرير متحـرك,مر شريط حياتي من أمامي كـفـلم وثـائـقي مصحـوبــًا بوقع أقـدام عمي حمود حسين وهو يُجاري الممرض الذي يدفعني بقوة وكأنه يود لو افـتـداني بنفسه أو حـتى يقـلل من اندفاع الممرض..لا مكان للـكـلام,فالصمت أبلغ من أي كـلمات بل كان لغة في حـد ذاته, وبقى بصري شاخـصــًا يطير في الأجـواء يتـكـهن من أي الجهات يدخـل الموت؟ وما شكـل القوم الذي يحملونه؟ وما رائحة ملابسهم؟ وكيف يكون طعم الاحـتضار؟؟

دخلت غرفة العمليات فانقطعـت الحـيرة بفعل ممرضة تعمل بجـد عـلى تعـقـيم أدوات الجراحة دون أن تدرك بأن أصوات عدتها كانت رثاء محـزنـــًا ومرعـبــًا لي وكأنـني في طقوســـًا وثـنية لقوم سيقدمون للـتو أضحـية بشرية للآلهة.

غرفة العمليات باردة جـدًا فبدأت أرتعش من البرد الذي أمتـزج بالخـوف وربما بالجـوع لأني كـنت صائمــًا يومها حـتى اقـترب مني ممرض استطاع قراءة القـلـق في عـيوني, فأمسك بـيدي وسألني: ما أسمك؟ بلعت ريقي المنـقرض وقـلت : مجـلي.. ولم اسأله عن أسمه وما الفائدة؟ فهو متجه نحو الأولى وأنا أحزم الشنط صوب الآخرة. ثم سألني: خائـف؟قـلت: لا.. بس بردان,فأحـضر لي بطانية دافـئة حـفـزت دموعي ومشاعـري التي تـفـتـقـد أهـلي في تـلـك اللحظة وبُـعـدهم عـني رغم حاجـتي الماسة لرؤيتهم أو عـلى الأقـل لتوديعهم. العملية خـطرة جـدًا لكن لا خيار أمامي ولا حـتى بقدونس لذا بدأ الممرض يُحـدثـني ويداعـبني لكي يشـتـت انـتباهي من التـفـكير فيها فجزاه الله خـيرًا لأنه واساني في وحـدتي بل أحـسست بأنه ملاكــًا أرسله الله لي أو عـلى الأقـل روحــًا تحمل ريح أهـلي الصائمين يومها من أجـل شفائي لعل الله أن ينظر إلي و يرحم صاحـب هذا الجـسد الصغير!!

أتى المخـتص بالتخـدير ووضع كمامة على أنـفي وقال: تـنـفس بعمق, فأخـذت أتـنـفس بقوة حـتى سرى مفعول المخـدر في دمي, والملاك مازال ممسكــًا بـيدي وكأنه يقول لي: سأذهب معك إلى آخـر الدنيا فلا تخـف. بدأ الوعي يتلاشى مني فأغـمضت عـيني, واستـغـفـرت الله ثلاثـــًا, ثم تـشهدت, وبقى السؤال مشنوقـــًا إلى أجـل غـير مسمى يهزني بقوة: هل ستـفـتـح عـينيك مرة أخـرى أم أن الآخــرة سيزيد من أهـلها واحـد؟ لكن الإجابة لم تأتيني فـقـد غـرقـت في سبات عـميق.

شكرالله سعـيكم أيها السرطان, فلا تخـطفـني بموت مبكـر لأني أستمتع بحـياتي رغم بساطتها ومرارتها, فأنا أريد أن أعـيشها كاملة, وأن استهلك عـمري الافـتراضي, وأن أموت بعد أن تـنـتهي صلاحيتي كعـلبة فول بلغت تاريخ الانـتهاء.. فأنا أريد الموت عـلى فراشي.. فلا يشرفـني أن تـكون نهايتي على يدك أيها المرض الخـبـيث اللعـين. فالمعركة بـينـنا وبـين السرطان غـير متـكافـئة, فـنحـن كائـنات تملك الحياة وهو كائن يملك الموت, ومع هـذا مقدر لما نملك أن يموت ومقدر لك أيها السرطان أن تـقـتات عـلى حـيواتـنا..

لقد أردت الثـأر من السرطان ليس لي فـقط وإنما للملايـيـن الذين يقـتـلهم بغير حساب لكـني اكـتـشفـت بأني ضعيف وضعيف جــدًا.. فلو كان السرطان رجلاً... نعم رجلاً...لفررت من أمامه واخـتبأت في مكان لا يراني فيه فأنا وللأمانة \"حـيري عـلى من قـدر \" وأنا أضعـف من أن أواجه قاتـل محـترف مثـل السرطان فلا أستطيع المواجهة بمفردي فهو بحاجة إلى تكاتـف المجتمع بأسره ضده.. فمن يعتـقـنا نحـن ضحايا السرطان من هـذه المحـرقـة؟

ستـة عـشر ساعة في غـرفة العمليات هي مدة معركة دامية بـيـني وبـيـن السرطان مابـيـن كر وفـر أمام عـدو آتى ينازعـني روحي التي وهبها الله لي ويسلب حقي في الحياة دون شفـقـة أو سلطان. ثم خرجـت إلى غرفة العناية المركـزة لأدخـل في غـيـبوبة لمدة ثـلاثـة أيام عائـدًا من ساحة حـرب غـير عادلة فأنا منهك القوى لا أملك أي سلاح بـينما عـدوي السرطان يتـبخـتـر في الميدان يقـتـل هذا و يعـتـق هـذا.

عمر الشاقي باقي.. ولأني حـظيت بفرصة ثانية في العـيش معكم ليس معناه أني من أولياء الله الصالحـين فأنا مجـرد شخص بسيط لا أهـش ولا أنـش وذنوبي منيلة بسبعـين نيلة!! لـقـد صحوت من الغـيـبوبة مشوشــًا لا أدرك ما حولي فوقع بصري عـلى عـيون زرقاء لفـتاة شقـراء تـرتـدي بدلة بـيضاء ومع هذا لست ساذجـــًا حـتى أعـتـقـد أنـني قد مت وهـذه الشقراء من حور الجـنة فـلـقـد أدركت أنها ممرضة أمريكية فأنـا لو فـقـدت الوعي لسنوات وسنوات أستطيع تميـيـز الدنـيا ورائحة نسائها. كانت ردة فعلي التي لم أفهمها أنـني دخـلت في نوبة بكاء شديـد دون سبب لا فرحــًا ولا حزنـــًا وإنما هكذا خورت البكاء!! وكانت الممرضة الأمريكية تضمني إلى صدرها وتـقول بلـكـنة عربـية مكـسرة \" موجالي..... لا تبكي...... أنـتي كويسة\" فزاد بكائي أكـثر رغم إدراكي بأني فعـلاً \" كويسة\" ولم أسكت عن الصراخ حتى أحضروا عمي حمود.. والفائـدة التي خرجـت بها من ذلك الموقـف أنـني أحسست بالشعور الذي يدفع الأطفال حديثي الولادة للبكاء فكـل من يوهب الحياة تـكون لديه خورة عارمة في البكاء كامتـنان عـلى هـذه الهـبة السماوية.

أطالع وجهي في المرآة فأقـول لنفسي: يا لك من فتى نحـتـت الأيام شكـلها على محـياه, وحـفرت أقـدامها أخـدودًا على سالـفـته!! لكي أكون صادقـــًا معكم فـقـد انـتصرت على السرطان وفي نفس الوقت انهزمت.. نعم انـتصرت لأني انـتـزعـت روحي من بـيـن أنيابه اللـزجة, ولكني انهزمت لأن السرطان قـد تـرك له ظلاً في وجهي, أعـتـقـني من الموت بعد أن تـذوق قطعة من لحمي, وشرب كأســـًا من دمي, ورسم طريقــًا في جسمي كالطريق التي ترسمها القـوافـل في الصحراء, فليس أصعب عـلى المرء من أن يُـلزمه عـدوه بأن يحمل أثـر الهزيمة والانكسار عـلى وجهه بيـن الملأ.

صدقـني لا أكرهـك أيها السرطان لكـني أيضـــًا لا أحـبك.. لا أريد مواجهتـك لكـني لست خائـفـــًا منك.. أحاول تجـنبك لكـني لن أفـر إن قـررت اللـقاء يومـــًا.. لن يمنعـني هذا الكبرياء من الاعـتراف لك بأنـك لا تستسلم ولاتحـب الهزيمة وأنـك ستعود يومـــًا لمواجهتي.. عندها صدقـني سأطلب الرحمة لكن ليس منك بل ممن خـلـقـني وخـلـقـك فهو الوحيد القادر أن يرحم عذاباتي وآلامي ويرفع أوجاعي وآهاتي..

مازال تراب المقابر عالـق بأيدينا جراء دفن أحبة وأقارب قـتـلهم السرطان لذا فأنا متعاطف مع مرضى السرطان ممن عرفت وممن لا أعرف.. أحسب أن بـيني و بـيـنهم صلة رحم يمكـنـني تسميتها قـرابة السرطان.. وما أنا إلا فارس انكسر سيفه في ميدان المعركة وعاد يجـر أذيال الهزيمة ليحكي للجـميع الرعـب و الألم و التعب الذي تحملونه أمام هذا الوحش الضاري المتعطش للقـتـل لهذا فأنا أكثر الناس إحـساســًا بقـدر الألم الذي يفـتـك بكم, وبحجم الوجع الذي يسكـنـكم..مشفـق أنا عـلى كل الذين قـتـلهم السرطان ومشتاق لهم كـثيرًا وأقول لهم: لم يعـد لدي أي أمل في أن أراكم بعد اليوم لكـني أظـن بأن لديكم أمل في أن تروني. إخواني وأخواتي من ضحايا السرطان.. ربما أبقـاني ربي قـليلاً في الدنيا لكي أبلغ رسالتكم وأشرح مأساتكم لعل وعسى أن تـتحـرك للغوث قـلوب رحـيمة وأكـف بـيضاء سخية فأرجـو من الجميع التـفاعل مع مراكز مكافحة السرطان والحملات الخـيرية لمرضى السرطان خـصوصــًا في هذا الشهر الكريم.


في الأربعاء 24 يوليو-تموز 2013 07:54:58 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=21455