غيرةٌ مُنكرة
جمال انعم
جمال انعم

صار في مقدور أي مهووس إشعال حرب كونية بمنتهى البساطة وبكثير من الحقد وقليل من الذكاء وبأدوات سهلة .

في إمكان رسم كاريكاتيري أو فيلم رديء الشكل والمضمون, يكتبه الشيطان وتنتجه النقمة ويخرجه الحقد , أن يدفع شعوبنا إلى الإساءة لكل فضائلها وقيمها النبيلة , تصورتُ الشيطان صانع الفيلم وهو يضحك فرحاً أمام الحالة الجنونية التي تلبست الجموع , في قلب القاهرة وليبيا واليمن وتونس والسودان , مفزعةٌ هذه القابلية للإنجرار , ومفجعٌ هذا الإنقياد الأعمى خلف الفتنة , الإستعداد للوقوع في شراك المكائد , الإندفاع لخوض معارك كبرى تهزمنا في الصميم , وتجعل منا جُناة يغطي جنوحهم على كل مظلومية لهم.

أتساءل بحيرة شديدة لماذا يتراجع صوتُ العقل إزاء حوادث كهذه ؟ .. لماذا تقف الحكمة بعيداً تاركةً الغوغاء يشعلون الحرائق في جسد الأمة ودينها وصورتها أمام العالم ؟ .

إستبقت النار إلى إزهاق روح السفير الأمريكي في ليبيا إختناقاً ومعه ثلاثةٌ من طاقم السفارة , وطوقت سفارة أمريكا في القاهرة , كان المنتظر أن نكون أكثر مسارعةً لكبح جماح هذا الإنفلات الهستيري كي لا تتكرر المأساة الهازلة , ولقطع الطريق على مستثمري الأزمات , الذين عملوا على إستغلال هذه القضية على نحوٍ يضرُ بنا ويكاثر مسؤوليتنا الوطنية والدينية والأخلاقية .

لماذا تسمحُ بلداننا حكومات وشعوباً لمجاميع عُصابية كي تتصدر المشهد وتختزل الجميع في موقفها الأرعن وصورتها الشائهة ؟

لماذا يُسمح للجنون أن يكون التجلي الأبرز , والتعبير الأوضح عن مجتمعاتنا ؟ لماذا ندعُ الرعونة تمثلنا وتمثل بنا ؟ لماذا نترك صورتنا للقبح كي يلطخها ويعبث بها ويخلع عليها دمامته ؟ لماذا تصلُ النباهة والفطنة متأخرتين وقد إنكسرت الصورة , وأحترقت السمعة , وأتسع الحريق وأنفلتت الغيلان ؟

كان المشهدُ فاضحاً والغيرةُ تحمل غنائم تلك الإغارة المقدسة على سفارة أمريكا في الشيراتون , تحظر هذه التعابير المخجلة , مسجلةً غياب العقل الجمعي وإنسحابه تماماً من المشهد , وإن حضر فمتأخراً بوهنٍ وفتور , وممالئةٍ ودوافع حمائية للصورة المتفحمة .

تتكرر الملهاة , ويستمر المهزومون في إلحاق الهزائم بأنفسهم دون بصرٍ أو بصيرة , تكثر الخسارات , وتختلط الأوراق , وتضيعُ عدالةُ القضية في زحام القضايا المستعادة لحظة الشعور العميق بالإنتقاص .

أستعيد مقتطفات من مقالةٍ كتبتها في 10 / 2 / 2006 م تحت عنوان " كي لا يكون غضباً منفلتاً " نُشرت في " صحيفة الصحوة " إثر الحرائق التي أشعلتها الرسوم المسيئة , حيثُ نجد كم هو اليوم أشبه بالبارحة رغم الإنتقالة الهائلة التي أنجزتها شعوبنا في ربيع الثورات , حيثُ أنتصرت الروح السلمية على أعتى الديكتاتوريات العسكرية , الأمر الذي فرض منظورات ومعادلات جديدة في الرؤية والموقف الغربي والأوربي لواقع الشعوب العربية والإسلامية عموماً .

 تحتفظُ هذه الرؤية بحيويتها وذلك تبعاً لتكرار تفجر الحالة التي تتحدث عنها بنمطيتها وتطابقها التام .

مقام رسول الله أرفع من أن ينال، ومكانتهُ أقدس من أن تمس، وقدْرهُ في الوجود أعظم وأسمى من أن يساء إليه، وحبه دين، وعبادة، وصلاة، نتقرب بها ونتحبب إلى الله، ولا أرانا بحاجة لاختبار مسيء لنثبت له كل هذا الولاء وهذى المحبة.

أُقدّر وأُكبر وأُجل هذه الروح الغاضبة المحبة وهذه المبادرة والاستجابة الحيوية التي أبداها الشارع المسلم في تعامله غير المتهاون مع هذه القضية، لكن المزعج والمقلق أن يتحول الأمر إلى حماسة مجنونة وغضب منفلت، وهياج أعمى متشنج، في أفق انفتح على العاطفة أكثر من العقل، ووجدت فيه لغة التحريض والكراهية طرقاً ومنابر كثر زاحمت فيها لغة الحكمة والاعتدال بحيث تحول الأمر إلى غوغائية، تعتمد " التحشيد"العاطفي وإثارة العصبيات النائمة لا أكثر.

إن المجانين لا يصلحون حماة لقضايا عاقلة، وهذا الانفلات مهما تدثر بالنبل وفضيلة الغيرة يهزمنا ابتداءً ولا يخدم قضيتنا ولا يصب إلا في صالح تكريس تلك الصورة العنيفة المنمطة عناّ في ذهن الآخر، وهو ما يصعب مهمتنا أكثر.لا سيما ونحن نبذل الكثير من الجهد في سبيل رسم حدود تفصل المقدس عن العنف وتحاول إيجاد مقاربة معقولة بينهما يمكن خلالها ضمان البقاء الكريم والتعايش الممكن على قاعدة المشترك الإنساني عموماً.

ما أظن راشداً يقبل بأن يتجاوز التعبير حده ويتحول إلى عاصفة عنف هوجاء تضرب الأرجاء، يقودها الجنون وحده، وتعبئها الأحقاد، يستراب فيها من دعوات التعقل ويتطير من الحكمة، وتختزل فيها محبة الرسول إلى فعل مهووس أو بيان منتقم تدق فيها طبول الحرب وتوقد نيران الثارات، تستدعى تواريخ الصراع، تخلط الأوراق، ويعلن نافخو العداوات عن نقم كونية تضعنا في خط النار ضد أنفسنا وضد الجميع.

دعوني أجاهر هنا في وجه المد الناقم الذي لا يرى غير نقمته ولا يحسن سوى توعد العوالم بالهلكة والدمار حتى وهو يدعي الذب عن حياض بشير الإنسانية ونبي الرحمة المبعوث (رحمة للعالمين).

لا يسعنا إعلان الحرب على العالم بأسره وعلينا إدراك حدود مسئوليتنا عن تلك الصورة الشائهة لنا في مخيال الغرب، نحن الغائبين المغيبين في عصر الصورة وعصر العولمة حيث تحدي الأقوياء وحيث لا مكان للضائعين صوتاً وصورةً.

أكتب هذا بينما زميل يهمس بفكرة قد تبدو مجنونة ومستفزة للأتقياء العجزة ومفادها مناقشة مضامين تلك الصور وتفنيدها والرد عليها وتصحيح الكثير مما تضنه أو تفهمه أو تحاول تكريسه ومعرفة حقيقة دوافعه لكي نحقق مستوى "التي هي أحسن دفعاً ومجادلةً وعدلاً لا يضر به "...شنئان...".

بقي القول أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس مجرد شخص إنه مشروع عالم ولقد تحمل الرسول الإنسان بالأمس الكثير من الأذى في سبيل هذا المشروع الكبير وما يناله اليوم من أذى الغير فليس إلا بسبب عجز وتخلف حملة مشروعه من بعده.


في الأحد 16 سبتمبر-أيلول 2012 06:33:59 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=17320