من "ناصر علي" إلى "علي ناصر"
اسكندر شاهر
اسكندر شاهر

مأرب برس – دمشق – خاص

لم يلق زعيم "عربي" الشعبية المتعاظمة والإجماع الوطني والقومي والأممي الكبير على الزعامة النوعية كالذي كان للرئيس الراحل جمال عبد الناصر حيث شكل بزعامته العلامة الفارقة التي يصعب تكرارها حتى اليوم في تاريخنا الحديث والمعاصر "بكل ما فيها" ، ولأنه كذلك لم يكن أثره شعبياً بقدر ما كان نخبوياً عربياً بل وعلى مستوى القادة العرب ، فهذا "أمين القومية العربية" بحسب وصف عبد الناصر العقيد معمر القذافي لا يجد رافداً لحيويته القومية كما وجدها في عبد الناصر وكذلك نهل منها بإحسان وحكمة ونبوغ الرئيس الراحل حافظ الأسد .

 وكما ابتعثها أيضاً ولكن– على طريقته – الرئيس العراقي الراحل صدام حسين ،وهنا يوجد فارق ملحو
ظ حيث كان البعث العراقي بقيادته القومية أكثر نشاطاً وفاعلية مقارنة بنشاط البعث السوري على الصعيد العربي وخاصة فيما يتعلق باليمن وهذا ليس عائد لقصر سياسي وأيديولوجي في هذا الشق البعثي الذي يوصف بأنه الشق "اليساري" وإنما هو عائد لنشاط القيادات القومية اليمنية المرتبطة بالبعث العراقي وتفاعلها مع الساحة في مقابل قيادات يمنية تابعة للبعث السوري كانت نائمة ولا تزال ، وقد ترافق ذلك الحس القومي مع محاولات عربية وأجنبية إلى تشويهها تارة بإيرادها في غير موردها وتارة بتحميل "النكسة" أكثر مما تحتمل وأخيراً بتوصيف القومية على أنها "موضة قديمة" لا تناسب العولمة ومعاييرها "الصهوامريكية" وقيمها البراجماتية ، وواجهت فكرة "القومية" منذ العقد الأخير من القرن الماضي وحتى اليوم حملة أيديولوجية مدروسة ترافقت مع محفزات كثيرة و متسارعة لتنشيط فكرة العولمة وتثبيط الشعور الوطني والقومي ،وقد أحسن وصف حالها العقيد القذافي في لقائه الخاص مع قناة الجزيرة عشية القمة العربية التي انعقدت في الرياض الأسبوع المنصرم حينما قال بأنها أصبحت "يتيمة" ، و للأسف كانت أخطاء بعض القادة القوميين التاريخيين بمثابة (فورمت) أو تهيئة لنشر العولمة وتعزيز الشعور القطري وتقليص الانتماء القومي ، كما حصل نتيجة اجتياح العراق للكويت قبيل حرب الخليج الثانية ، وأنا هنا لا أكرس الخطأ باتجاه قومي بالاستشهاد بهذه الحالة ، لا بل أنني أرفض بالمقدار نفسه حرب الخليج الأولى وإن كانت موجهة باتجاه قومية أخرى من غير العرب ، فتعزيز القومية العربية لا يعني بأي حال من الأحوال إلغاء القوميات الأخرى ، وإلا لوقعنا في خطيئة نظرية أشد وأعتى ، فقومية الإمام الخميني الفارسية لم تمنعه من الإشادة بقومية عبد الناصر العربية ، هذا إذا أردنا حسابها بشكل رقمي ، والواقع هو أبعد من ذلك بكثير لولا قلة عقول من قلت عقولهم ، وتشبث الذين يعرفون من القومية غثائها ، بأهداب وتلابيب ذلك الغثاء ، بعد أن تركوا جلها وعظيمها بين دفات كتبها، ورفات أقطابها .

أطلتُ في المقدمة وأسهبتُ في الديباجة، ولكن من له فواتح تحسُن خواتمه ، وفي الفلسفة " العلة تسبق المعلول" ، وفي الشعر والأمثال العربية الكثير مما يحوم في هذا المدار .

وصلتني مؤخراً رسالة إلى بريدي الإلكتروني ممهورة باسم مرسلها " ناصر علي " ، الحقيقة قرأت الرسالة وقرأت اسم مرسلها ، ولم يكن لافتاً بالنسبة لي الاسم غير المعروف ومصادفته، خاصة أن موضة جديدة سادت في ظل ثورة الاتصالات وشيوع الإنترنت وكثرة التعامل من خلاله وهي موضة "الأسماء المستعارة" التي تذكرنا بحقبة متخلفة وقديمة ، تلك التي كان العمل فيها يقتضي اختيارك لإسم "كودي" ، وهذه مفارقة من مفارقات عصرنا المعولم الذي يقال بأنه عصر الفضاء المفتوح والقرية الكونية ، ولكن يبدو أن القرية صارت "زريبة" والفضاء ليس مفتوح وإنما منفوخ ، دلالة على ورم خبيث قد أصابه .

"ناصر علي" الذي لا أعرفه حقاً اقترح علي أن أجري مقابلة صحفية مع الرئيس اليمني الأسبق علي ناصر محمد (أبو جمال) ، ربما اختارني لسبب مقر إقامتي أو ربما لأني كتبت غير مرة عن الرئيس علي ناصر في غير مناسبة، لم يوضح السبب ولكنه كان مصراً في اقتراحه أن تكون المقابلة مركزة على ثلاثة محاور الأول موضوع القومية ومصيرها وهذا لم أستغربه خاصة أن الرئيس علي ناصر معروف بقوميته وباتجاهه القومي الواضح ، والثاني هو الحرب لأنها لم تفارق التاريخ اليمني جنوبه وشماله ، وفي هذا الخصوص ركز المرسل على أن يوضح الرئيس علي ناصر موقفه من أحداث يناير التي تم نبش قبور شهدائها مؤخراً في عدن من قبل السلطة المحلية والتي اتهم علي ناصر بأنه تجاهل ذكرها في كلمة ألقاها بمناسبة أقيمت في القاهرة لذكرى شهيد الوطن الكبير جار الله عمر كانت متزامنة تقريباً مع أحداث النبش سيئة الذكر، والثالث هو حرب صعدة ودفع العسكريين الجنوبيين للمشاركة فيها في عملية استنكرها الكثير من الجنوبيين بشدة ورأوا فيها مؤامرة فاضحة وواضحة ، وأحدهم اعتبرها أسلوب خطير يستخدمه النظام الحاكم لسلخ الجلد الشمالي عن حرب صعدة وتلوينه بألوان أخرى الأمر الذي يستدعي بصورة مباشرة أو غير مباشرة حرباً أهلية مختلطة دينياً وجغرافياً وفئوياً وحزبياً و...إلخ ، ولا تذهب اليمن بعدها إلى الصوملة بل إلى ابعد من ذلك بكثير .

"ناصر علي" وبعد قراءة فاحصة لرسالته ، انتابني شعور بأنه يمثل شريحة واسعة من شعب اليمن أو أنموذجا لا يزال يبحث ويبحث عن بقعة الضوء وأنا واحد منهم ، ولم يكل أو يمل بعد . وهو الشعب العاطفي الانفعالي الذي تأثر بحزب الله وانتصاره على إسرائيل ، فتم استثمار تأثره ذلك في الانتخابات الرئاسية والمحلية التي جرت في أيلول /سبتمبر الماضي، ثم تأثر لمشهد إعدام الرئيس العراقي صدام حسين واستثمر هذا التأثر في حرب صعدة ، واللافت أن بين الاستثمارين علاقة جدلية تدل على استخفاف بالعقول، شعب لكثرة ما لعبوا به وبمشاعره الصادقة والحقيقية أفقدوه مصداقيته ويوشك أن يغرق في غيهم وطغيانهم لا بل أوشك أن يفقد الوعي تماماً وهذا طبيعي .. فالرأس تحتمل الضربات ولكنها تحتمل إلى حد معين ثم تنهار ، ولكنهم ينسون أن انهيار هذه الرأس ستكون مقصلة لجميعهم بدون استثناء ، والذي سيهرب بسرقاته وبما قام بتجميعه في الخارج من قصور وكنوز ، ستلحقة اللعنة حيثما كان .

وأما عن طلب المواطن المرسل لي ، ولأني قد حددت موقفاً معيناً من إجراء المقابلات الصحفية ، فقد فضلت أن أرد على "ناصر علي" من خلال معرفتي البسيطة بعلي ناصر وأفند سريعاً وبشكل مختزل المحاور الثلاثة التي أراد المرسل أن تكون موضوعاً للمقابلة المفترضة التي أعتذر عن إجرائها .

فبخصوص المحور الأول المتعلق بالقومية العربية ومصيرها فالرئيس علي ناصر أستطيع من خلال معرفتي به ومتابعتي لنشاطاته وتصريحاته بأنه "وطنياً" أثبت بأنه راغب عن السلطة لا راغب فيها ، ولمن لا يفقه العربية ولا يستطيع التفريق بين راغب الأولى وراغب الثانية أذكره بنص قرآني "أراغب عن آلهتنا يا إبراهيم " ، هذا الرجل الراغب عن السلطة يقود لجنة عربية لمناهضة المشروع الصهيوني وينشط قومياً من خلال هذه اللجنة ومقرها "دمشق" التي تعد المعقل الأخير للقومية العربية.

وأما المحور الثاني المتعلق بالحروب وبنبش مقابر شهداء أحداث يناير فما أعرفه أن الرئيس علي ناصر عبر كثيراً عن نبذه للغة العنف وللحروب وللإرهاب وكان في كلمته بذكرى الشهيد جار الله عمر يؤكد على هذه اللغة وقد سارع بالرد على الاتهامات بتجاهله ذكر النبش بالقول بأن المناسبة كانت مخصصة لإحياء الذكرى الخامسة لاغتيال جار الله عمر ، وكان علي ناصر قد ختم كلمته بتوجيه "تحية وفاء وإكبار لروح الشهيد جار الله عمر ولأرواح شهداء اليمن والأمة العربية "المعروفين والمجهولين" .

وقال الرئيس علي ناصر كما في الرد المنشور صحفياً "ونحن ندين بشدة نبش المقابر من مقبرة الصولبان إلى مقبرة الشهداء في خور مكسر وأي محاولة لنبش مقابر أخرى لأن ذلك ينافي القيم الإنسانية والأعراف والأخلاق ومبادئ الديانات السماوية ، ونبش المقابر هو نبش للفتنة والجراح والأحقاد ناهيك عن انتهاك لحرمة الموتى وإساءة إلى شعور ذويهم والرأي العام ولا يخدم هذا العمل الوحدة الوطنية ولا الاستقرار في اليمن". وفي هذا الخصوص أنا اعتقد أن المسؤول الذي لم يفصح عن اسمه والذي حاول إثارة هذا الموضوع بالطريقة التي أثارها لم يكن موفقاً ، حتى لو كانت النية صافية .

وأما المحور الأخير في رسالة "ناصر علي" والمتعلق بحرب صعدة وزج الجنوبيين فيها فأنا أقول أنه مهما فعلت السلطة ومارست في هذه الحرب فلن يمكنها على الإطلاق أن تغير من حقيقة المعادلة التالية : "الحرب في شمال اليمن وفي العمق التاريخي والجغرافي والاستراتيجي للمذهب الزيدي .. الحرب لا تزال غامضة ، ولكن أوضح ما فيها أنها شمالية بامتياز " .

وأعتقد أن خطاب الرئيس علي ناصر كان على الدوام خطاب وحدوي لا يفرق بين شمالي وجنوبي ، لا بل أستطيع القول بأنه من أكثر القيادات الجنوبية حظوة في علاقاته مع أبناء الشمال مسؤولين ومشائخ ومواطنين بمختلف شرائحهم ، وهذا ما لمسته في دمشق لأني لا أعرف الرجل من قبل بشكل شخصي .

وأخيراً.. فإنني ومن باب عدم تجاهل رسالة وصلتني وإن كنت لا أعرف مرسلها ومن واقع مسؤوليتي المهنية والأخلاقية ، أتوقع أنني بهذا المقال قد حملت الرد أو بعضه إلى ناصر علي من خلال معرفتي الرسمية بعلي ناصر ..والله من وراء القصد .

* باحث وكاتب صحافي من اليمن

eskandarsh@yahoo.com  


في الثلاثاء 03 إبريل-نيسان 2007 08:00:22 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=1456