حصلت لي في مطار دَافنشي
حسين السقاف
حسين السقاف

كان الجو شتاء وكانت السحب تغطي مساحات شاسعة من السماء بيدَ أنها تسمح لنا بين حين وآخر برؤية الأرض ، شاهدنا من على ارتفاع خمسة وثلاثين ألف قدمٍ جبال (الأوراس)، التي تكتسي بحلتها الشتوية البيضاء ، كنا في رحلتنا من العاصمة الجزائرية إلى روما ، مما يلزم قطع البحر الأبيض المتوسط عرضاً.

عندما كانت طائرتنا تدخل الجَزمة الايطالية ، بدت الشمس تغازل مخدعها ، و نحن نخترق دثار الأرض الأبيض الـمُخرّم المترامي أمامنا في الأفق اللامتناهي ، لاحت لنا جبال الألب الشاهقة وهي تكتسي حلتها الشتوية البيضاء ، كانت الطائرة تتخذ ارتفاعاً أدنى كلما اقتربنا من روما.

كنا نعد أنفسنا للجلوس أربعاً وعشرين ساعة في مطار روما ( ترانـزيت ) لذلك استعد كل منا لهذه المدة بطريقته الخاصة.

أما أنا فقد استعددت بكتاب اقتنيته من العاصمة الجزائرية للكاتب أمين معلوف ( موانيء المشرق ) كان رائعاًً في أسلوبه ، سريعا في طيه للوقت ، لذلك ادخرت بقيته لذاك اليوم ،حمل رفاق رحلتي فيما حملوا لعبة (الدومينو)، افترشوا الأرض بين كراسي الانتظار أمام بوفية المطار في الجهة الغربية.

بدا المطار يعج بالحركة ما أن تطير طائرة إلا وتأتي أخرى ، مسافرون من جنسيات مختلفة يأتون وآخرون يذهبون ، فهم بين مغادر أو قادم ، أو قادم ومغادر إلى عواصم مختلفة ، كنت أقرأ كتابي وأجول بنظري حيناً آخر في الغابة البشرية المتحركة في صالة الترانـزيت الطويلة .. بينما كنت كذلك ، لمحت شاباً يحمل على كتفه طفلاً جميلاً ، ويجر حقيبة كبيرة على عجلات ، في حين كانت إلى جانبه شابة جميلة تسحب خيط حقيبة أخرى، كان يقف ويشرئب بعنقه بحثاً عن موقع يستريح فيه من وعثاء سفره ، أشرتُ إليه مرحّباً في حين أزحت بعض حقائب المجموعة المطروحة على كرسي الانتظار الطويل ، جاء ليصافحني بحرارة وكأنني صديق قديم ، لعلها انتقلت إليّ تلك الحرارة عندما وجدت نفسي أقف لاستقباله :

- مرحبا من أين كنتم قادمين ؟.

- من مطار (بن قريون)!!.

- لعل مشواركم كان طويلاً؟.

- بل انتظارنا كان الأطول ، والأكثر إزعاجاًً .. لعلك تدرك كم يكون مهماً عندما ترحب بشخص في الساعات الأولى لغربته .. لذلك فإنني ممتن لكَ كثيراً .. ولكن من أي بلد تكون أيها الصديق ؟ .. كان لهذه الكلمة أثر في نفسي بدد ما لحقه.

- من اليمن ...هل تعرف اليمن ؟.

لعله لا يعرف اليمن كما بدا لي .. حاولت استذكار ما أعرفه مما ورد عن أرض سبأ في العهد القديم ، ولعلي كنت موفّقاً عندما ذكرت ( العربية السعيدة ) :

- عربي.. ؟.

غادرته علامة الاستفهام برهة .. إلا أنها عادت لترتسم على جبينه ثانية ، بيدَ أنه أجلاها بقوله :

- لا أخفيك أنني إسرائيلي الجنسية ..غير أنني لا أكن للعرب إلا كل تقدير واحترام .. بل أنني أُقر بحقهم في تقرير مصيرهم ، ولعل ذلك بعض مما جعلني أترك إسرائيل التي لم استقر فيها إلا عشرةً أشهر... مرت كدهر.

- إذا فأنت من بلد آخر غير إسرائيل.

تدخلت زوجته التي لازال ثغرها الأقحواني يحمل الابتسامة نفسها التي استقبلتها بها .. عندما بدأت الحديث قاطعها زوجها معرّفا بها:

- إنها (كرستينا) زوجتي ...وهذا ابني (ديفيد) .

- أهلاً بكم جميعاً ...اسمي حسين ...جميل أن ألقاكم .. إنها فرصة حسنة جاءت بي من الجزائر وأتت بكم من إسرائيل لنلتقي هنا في روما ..

كنت أوزع نظري بين الزوجين ،إلا أنه استقر على كريستينا لأحثها على استكمال ما قُطع من حديثها ولأملي النظرَ في العقدين اللؤلؤيين اللذين ينبري عنهما ثغرها :

- نحن في الأصل روس ونعتـز بثقافتنا الروسية كثيرًا ولا يمكننا استبدالها بما هو أدنى .. ولعل ذلك من أهم الأسباب التي جعلتنا نضيق بإسرائيل ونتركها.

- ولكنها بلدة جميلة.

- ذلك ما قد يبدو لمن يراها من بعيد ، أو من خلال استطلاعات الصحف الأمريكية فهي أشبه بلوحة سريالية شاذة الألوان والتكوين !!.

- إذا فأنت فنان تشكيلي .. بل وكلاسيكي .. لعلي أكون مثلك ،ولعل السريالية لا تروقني أيضا.

- السريالية أم إسرائيل لا تروقك ؟.

كنا الثلاثة نضحك.

- الاثنان معاً.

- بالتأكيد فأنت فنان لاستنتاجك ذلك .. كريستينا زوجتي أيضاً فنانة تشكيلية.

- بل قل إنها أيضاً لوحة جميلة... متحركة.

كانت كريستينا قد ارتفع صوتها وهي تضحك حتى أن ظهرها مال إلى الخلف ليلتصق الصليب المعلق بجيدها على صدرها .. كانت تردد :

- شكراً شكراً....

ذلك ما أثار فضول مجموعتي الذين قطعوا لعب الدومينو ليستطلعوا الأمر ، في حين كان جورج يضحك وهو يفتح حقيبة صغيرة ويخرج منها بعض الأوراق .. كان يطلعني على عقد عمل في شركة ( MTN ) للاتصالات في ( أوغندا ) في الوقت الذي كنت اقرأ فيه العَقد كان يَعقِد شيئاً في ياقة معطفي .. نظرتُ إلى ذلك .. كان وساماً لـ( الولد ) بحجم زر المعطف وهو للرسام الايطالي ( ليونارد دافنشي ) ، بدا متبسماً عندما كان يقول :

- وسام دافنشي، في بلد دافنشي، وفي مطار دافنشي...

عادت كريستينا إلى ضحكتها التي سَحرت بها من حولها بمن فيهم رفقتي الذين كانوا يُصُوّبونَ سهام أنظارهم إليها:

أشكرك .. كثيراً، كم كُنتَ كريماً معي ، بل وموفّقاً في اختيار هديتك .. أما أنا فلا أملك إلا أن أهديك هذه الميدالية التي على ياقتي .. إنها بسيطة ولكنها تمثل تضحيات مليون ونصف شهيد جزائري عربي كانوا يدافعون عن وطنهم وحريتهم .. إنها لـ ( مقام الشهيد ) أُهديَت لي بمناسبة زيارتي لمعرض المجاهدين في العاصمة الجزائرية .. كنتُ اعقدها على ياقة جاكيته الصوفي ، في حين قفزت كريستينا برشاقة لتشهد مراسم التقليد ، قربت وجهها لتحدق في الميدالية حتى أن أنفاسها كادت تدفئ يدي الباردة كانت تقول:

- يا إلهي كم هي عظيمة .. ثم أضافت:

- الجزائر لا تبعد كثيراً عن (أوغندا) ...نعدك بزيارة ذلك المقام لاحقاً.

- بلا شك إنه أكثر قيمة وأهمية من هديتي.

كان ذلك جورج الذي أضاف :

- أشكرك كثيراً .. أصبتِ يا كرستينا .. يستحق هذا المقام منا زيارة .. هل يمنحوننا تأشيره ؟ .. سوف نعمل على استصدار جوازات سفر روسية .. فنحن روس قبل كل شيء .. ستمكننا هذه من السفر بحرية أكبر في العالم لم نعد نرغب مطلقاً في العودة إلى إسرائيل .. لعل عمرها أقصر من فترة تجديد جوازي.

اعتقدتُ في بادئ الأمر أنه كان يبالغ بعض الشيء إلا أنه أضاف:

- ألم ترَ كيف كانت زوجتي تقهقه ؟ .. كانت المسكينة لتوها خارجة من سجن اسمه (إسرائيل).

كان يقول ذلك في الوقت الذي أحمر أنفه وأخذ رأس كريستينا ليقبل جبينها بحنان:

- هل أنت على ما يرام يا زوجتي العزيزة؟

- بل إنني أفضل مما يرام .. إنني فرحة مثلك.

 عادت كريستينا إلى مقعدها إلى جانب ديفيد في حين ذهب جورج إلى البوفية.

كان ديفيد الصغير بعد غياب أبيه يهرب إلى رفقتي ليعبث بلعبتهم ، في الوقت الذي تحاول كريستينا استعادته إلا أنه يتملص من بين يديها ثانية ، ليتشبث بأحجار ( الدومينو ) ويرمي ببعضها، مما أثار غضب أمه التي انتـزعته من وسط المجموعة الذين كانوا ينظرون إليه زهواً .. كانوا يقولون لأمه : اتركيه .. لا ضير في ذلك.

- لقد سبَبتُ لكم حرجاً بابني .. ماذا أصنع .. أنه لا ينصاع إلا لأبيه .. كذلك هم الأولاد ينصاعون لآبائهم ولكن الفتيات ينصعن لأمهاتهم دائماً.

كانت منـزعجة من فعلة ديفيد حتى اصبحت ابتسامتها الدائمة أثراً بعد عين على محياها الجميل ، فقلت مُعزياً :

- أكون صادقاً إذا ما قُلتُ لكِ أن مجموعتي أكثر متعة برؤية ديفيد الصغير يبعثر أحجار دومنتهم من لعبهم للدومنة نفسها.. على الأقل فهو يذكرهم بأطفالهم في اليمن الذين يتوقون إليهم كثيراً.

عاد جورج محملاً بالحلويات والعصائر ليأخذ موقعه ، في حين جاء ديفيد جرياً لأخذ حصته من ذلك .. كنا نتبادل العناوين في حين كان ميكرفون المطار ينادي :

على السادة المسافرين القادمين من مطار ( بن قريون ) المغادرين إلى مطار ( أوغندا ) على الخطوط الإيطالية في الرحلة 1948 التوجه عبر البوابة رقم ( 2022)*[1].

 [1].( 2022) : هو تاريخ زوال الدولة العبرية بحسب الدراسة الرقمية التي أعدها د. بسام الجرار من القرآن والتوراة وحساب الجمل عند العرب نُشرت في صحيفة الشرق الأوسط في 17 أغسطس 2001 موجودة في موقع www.alargam.com للسيد يحيى بن عبيد الله.

hhsaggaf@yahoo.com


في الجمعة 12 أغسطس-آب 2011 08:55:15 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=11302