رسالة نصية من امرأة مقصية
سلوى الإرياني
سلوى الإرياني

كنت أصعد الدرج بإعياء، حيث كانت عيادة طبيب العظام الذي أقصده منذ أكثر من عام ونصف في الدور الثالث. لازلت أذكر قبل ستة أشهر، كانت عيادته في شقة يتشارك فيها مع طبيبه نساء و ولادة. كانت العيادة القديمة في حي شعبي، داخل عمارة قديمة آخر ما تتصف به هو النظافة.. لكن الطبيب كان وفير الحظ، حيث كان خريج دولة أوروبية ، سرعان ما ذاع صيته. ما أن أزداد عدد مرضاه حتى رفع رسوم المعاينة من 1500 إلى 3000 ريال. كان المرضى راضخين لهذا السعر لإيمانهم الراسخ إن الغالي جيد! أما أنا فقد لمست فرقاً كبيراً في أداء الطبيب منذ كان عدد المرضى في غرفة الانتظار في عيادته لا يتجاوز الخمسة إلى ألان حيث يشغل المرضى جميع المقاعد و يتزاحمون للدخول.

كان هذا الطبيب في السابق يطيل في الإنصات إلى شكوى مرضاه. كان كذلك يسأل المريض عن تاريخه المرضي و إذا كان مريض بأي أمراض أخرى تمنع استخدام الدواء الذي وصفه الطبيب ، و يشرح الجرعة و مدة الاستخدام الزمنية. كان سابقاً يبتسم لمرضاه و يمازحهم. فشهدت له تلك الأيام أنه طبيب ممتاز، يمتهن الطب بذمة و ضمير. كنت دائمة الدعاء له أن يفتح الله علية و ينير قلبه بالسرور. يبدو أن باب السماء كان مفتوح، فاستجاب الله لدعائي و في ظرف السنة كان طبيب العظام قد أنتقل لعيادة حديثة خاصة به، في مدخل الشقة مكتب استقبال أنيق يعمل فيه بالتناوب شاب لطيف و فتاة بشوشة مبتسمة. كراسي الانتظار نظيفة. قام الطبيب بعدها برفع رسوم المعاينة من 3000 ريال إلى 3500 ريال.فصارت زيارته تحتاج إلى تفكير و تدبير و دراسة جدوى قبل الإقدام عليها. في بلد ليست "الحالة الصحية" هي التي تقرر زيارة الطبيب من عدمها بقدر ما تقرر ذلك المادة.

كان الطبيب في الآونة الأخير ُيسرع في إنهاء الحالة المرضية التي تدخل إليه. يكتب العلاج على عجالة، يسلمها للمريض و ينهي الزيارة بكلمة "الله معك" لا يسأل عن شيء و لا يشرح شيء. خرجت من عنده كسيرة و حزينة. لمدة كم يوم أو شهر استخدم الدواء؟ الطبيب لا قال و لا كتب. إذا لم أجد هذا الدواء تحديداً و هو أمر وارد ،ما هو الدواء البديل؟ أليس للدواء أي أعراض جانبية قد تؤثر سلباًً على كمريضة للضغط المرتفع. نزلت الدرج، وركبتي تنبض من وجع احتكاك المفاصل ذهبت إلى الصيدلية واشتريت العلاج. في منزلي جلست اقرأ بكل وضوح إن لابد من استشارة طبيب قبل استخدام هذا العلاج إذا كان المريض يعاني من ارتفاع ضغط الدم لأن العلاج قد تسبب لدى بعض المرضى حدوث سكتة قلبية. لم افهم، هل اخطأ الطبيب؟ هل نسى الطبيب؟ هل أهمل الطبيب؟ أم ترى هذا المكتوب ما هو إلا مبالغات طبية والطبيب هو أدرى وأخبر الجميع؟ هل استخدم الدواء... أم اتصل لأذكره باني من مرضى ضغط الدم المرتفع ويقرر ما يراه سليماً؟ استقر رأيي على هذا الحل كان معي رقم الطبيب في الكرت، فاتصلت به بعد أن تأكد إن الوقت مناسب فلم يرد . أرسلت له رسالة نصية أقول له فيها أنا مريضة بالضغط المرتفع، كتبت لي اليوم علاج_____ ، فهل يضرني هذا العلاج؟

كتبت اسمي، لكي يذكرني فلم يرد، اتصلت بالعيادة وأخبرت الشاب اللطيف شرحت له السؤال فقال أتصلي غداً، الطبيب ألان قد عاد إلى منزله لذا أتصلي غداً بعد السادسة ذهلت... الطبيب لا يعمل إلا بعد السادسة؟ لماذا؟ ماذا يفعل منذ يكمل غدائه حتى ذاك الوقت؟ هل ينام؟ هل يخزن؟ أم تراه يشاهد التلفاز أو يعد نقوده كلها أمور ممتعة، يسيل لها لعاب المجهد المتعب مثلي و لكن الرزق إذا لم نحتفي به أنسحب منا. في اليوم التالي انتظرت الساعة السادسة و أنا أناظر العلاج ، في كل مرة أتفوق و لا أستخدمه مهما ألح علي الوجع اللصيق بركبتي لاستخدامه غير أنني كنت كل مرة أقاوم الإغراء و لا أتناول منه حبة واحدة خشية من مضاعفاته. عندما أصبحت الساعة السادسة اتصلت بالطبيب فلم يرد! أرسلت رسالة نصية قلت فيها :" دكتور ، أنا من أتيت إليك بالأمس. كتبت لي علاج _____و قرأت فيه إنه لا ُينصح باستخدامه من ِقبل مرضى الضغط المرتفع، حيث ُسجلت حالات سكة قلبية. فخشيت أن تكون نسيت أنني منهم. فهل استخدمه ؟" كتبت اسمي لكي أذكره بي. لم أتلق أي رد.اتصلت بالشاب اللطيف و رد الشاب اللطيف. كان يصيح بكل ما أوتي من قوة :" لا اسمع، المطر يهطل بغزارة.لا استطيع سماعك." كان المطر يهطل عندنا أيضاً و كنت أسمعة جيداً. قمت بكتابة رسالة نصية على رقم العيادة حيث كان أيضاً جوال:" جئت أمس إلى العيادة و كتب لي الطبيب دواء قرأت في وصفته ، أنه لا يناسب مرضى الضغط المرتفع و أنا منهم. اسأل الطبيب هل استخدمه أم لا؟ و ارسل لي بالرد." لم يرسل الشاب شيئاً. اتصلت بعد نصف ساعة، ظناً مني أنها لاشك مدة كافيه ليكون قد حصل على الإجابة من الطبيب. كررت الاتصال دون فائدة. مددت ساقي فوق السرير، أكاد أئن من شدة الوجع الذي بات يمتد إلى أسفل ظهري.مسحت بكفي ركبتي و ربت عليها و كأنني أتوسلها ألا تمعن في إيلامي. دعوت الله أن يشفي ركبتي لأنها من بعد الله سندي. بها أقف ، بها أعمل، بها أستلم راتبي، بها أطعم صغاري ، بها أخدم صغاري....دعوت الله أن يديم علي نعمة الركب القوية و ألا يحرمني منها أبداَ. دقائق و كررت الاتصال ، هذه المرة أجاب الشاب فسألته:" ماذا قال الطبيب إذا تكرمت؟" فأنفجر الشاب الذي لم يعد لطيف البتة في وجهي و قال:" ماذا قال؟ من أنتِ أصلاً؟" فكررت اسطوانتي المملة:" أنا المريضة بالضغط المرتفع ، كتب لي الطبيب دواء لا يجب أن يستخدمه مرضى الضغط المرتفع. فهل أستخدمه؟ ركبتي تؤلمني بشدة." رد الشاب بنزق واضح:" الطبيب هو من كتبه لك و ليس أنا!!" فأجبته:" أعرف و لذا طلبت منك سؤاله.هل أستخدمه؟ مكتوب فيه ألا أستخدمه." هاج الشاب ، ربما كان يا حرام مضغوط نفسياً أو أهانه الطبيب قبل قليل ، قال لي:" مادام الطبيب كتبة ، فقد فعل لكي تستخدميه! فلماذا سيكتبه لك إذاً ؟ لتتبخرين به؟" قاطعته متجاهله السخرية و الاستهزاء في كلامه قائلة:" طيب و لكن مكتوب في العلاج أن مرضى الضغط المرتفع يجب ألا يستخدمونه فخفت!" هدأ قليلاً من حدته، ربما سمع في صوتي حشرجة بكاء لم ألحظها أنا ، أجاب :" استخدميه يومين ثلاثة أربعة ثم عودي للطبيب." سألته:" يومين لن يضروني؟" رد:" لا!!" و أنهى المكالمة. لست أدري أي شيء انهمر فوقي في جلستي تلك فوق السرير، لعله ذل، لعلها أهانه، نظرت إلى ثيابي و قد التصقت بجسمي، شعرت كأنني سكبت ببرميل ماء نتن. ارتعشت من البرودة. لا شيء في الدنيا ُيمرض مثل الشعور بالذل و المهانة. لا ، أنا لن استخدم هذا الدواء ، فمن يكون هذا الشاب لكي يفتي؟؟ ليس مستبعد أن يكون مجرد شاب فقير لم يكمل المدرسة ، فكيف أعرض نفسي للمجازفة و أنا أعول؟ كيف أستخدم العلاج دون موافقة الرئيس ، أقصد الطبيب في بلد شاع فيه الأطباء الذين يقتلون مرضاهم خطأً، سهواً، إهمالاً؟ لا ! أنا لن أستخدمه! فكرت و اتصلت بالصيدلية فقال لي:" اسألي الطبيب،السكتة القلبية قاتلة!"....ههه ضحكت، و كأن ما كان ينقصني من معلومة هو أن السكتة القلبية قاتلة؟!! في اليوم التالي قرأت الفاتحة و اتصلت بالطبيب فلم يرد.ما به هذا الطبيب، ألانه قد أستلم مني الـ350 ريال ، ما عاد مهتم بي كمريضته منذ عام و نصف هذا البشع، الجشع!! أرسلت إليه رسالتي النصية المكررة ، فلم يرد أيضاً! هو فعلاً حر في غابة ، ليس فيها قانون، و لا رادع.راودني البكاء، ناطحني، صارعني ، لاكمته ثم دفعني أرضاً فسقطت و بكيت كما لم أبك منذ ولدتني أمي. لكن ركبتي يجب أن تتحسن لكي أخرج للعمل و أستطيع إطعام براعمي الصغيرة. مسحت دموعي و أعدت الاتصال بالعيادة، أجابني الشاب، كررت على مسمعه اسطوانتي فهاج:" اتقي الله بي! الطبيب لديه مرضى كثيرون. تعالي بنفسك و خذي الجواب الذي تريدينه بيدك لكن رجاءً!"...استغربت. صحيح أنني سألت هذا السؤال مراراً و تكراراً لكنني لم استلم رد واحد، فهل فعلا سيجبرني الحال أن اذهب إلى العيادة، و أكلف نفسي تكلفة المواصلات، و الوقت الذي سيضيع و أنا أنتظر لكي أحصل على إجابة؟!!! قلت له بإذعان :" حاضر سوق أتي." أنهيت المكالمة و نهضت إلى العيادة. كانت الدرج المؤدية للدور الثالث حيث العيادة خالية ففرحت. جلست فوق الدرج و صرت أصعد سلمه، سلمه إلى الخلف.أثناء صعودي رأيت حشرة صغيرة، لونها اسود لامع تصعد معي الدرج. توقفت عن الصعود و هاجمني الضحك. كانت المسكينة تهرول و تسرع ، تصعد بنفس سرعتي غير أن جهدها أكبر.هي تجري و تجري. و أنا أصعد جلوساً و أصعد! هبطت امرأة من أحد الأدوار و داستها، رايتها!! نزلت المرأة و رأيت الحشرة ميتة. لست أدري لماذا عضضت شفتي أسفاً، و كأنها صديقة لي ماتت.لم تسألني المرأة إذا كنت أحتاج مساعدة. بينما زحزحت أنا الحشرة إلى جانب الدرج و هرعت طوابير نمل لرفع الجثة. النمل لا شك أصل البني آدم قبل أن يتوحش!قبل أن أصل إلى مدخل العيادة نهضت و نفضت الغبار من فوقي. ما أن وقفت حتى ُصدمت، كان المرضى قد شغلوا جميع مقاعد الانتظار و خرجوا ينتظرون في المدخل. تضاءلت فرصتي في الدخول. جميعهم ذكور ، كيف أزاحمهم؟ اتصلت بي صديقتي لتبشرني أنه تم الاستغناء عني في المصنع، و لكنها و سائر الزملاء سوف يذهبون للمدير غداً لكي يحتجوا و يعترضوا!!شكرتها، أنا ألان أفكر ، و أقلق على ركبتي. عندما يصلح حال ركبتي يصلح حال دنيتي كلها!ذهبت إلى الشاب ، أحاول أن أرفع قامتي القصيرة لكي أراه خلف كومة الملفات العالية. قال لي :" انتظري في الداخل!! أمامك حالات كثيرة ملحة." دخلت في طاعة عجيبة. ما أن جلست حتى تأمليني النساء المنتظرات. دقائق و دخلت قارورة عطر خلاب و ساحر. امرأة بادية الثراء ، تنتعل صندل كعب يصلح ليكون بلورة كريستال. حقيبتها جلد، رجحت أن يكون جلد بني آدميين. تأملناها كلنا بفقر و بؤس. جلست واضعة رجل على رجل. تفرست في حقيبتها ، إنها جلد ناس. عبارة عن بقع من جلد شحاذة ، بقع من جلد جارتي التي تخبز الخبز و تخرج الشارع لتبيعه ، جلد أخدام، جلد عاطلين عن العمل...ثواني و أطل الشاب من الباب يقول بزهو و كأنها أمة هو:" أم فلان الفلاني." قامت، كدنا ندوخ من قوة عطرها. خرجت فهبط وابل من النميمة:"دخلت بهذه السرعة؟ لماذا؟" و "الطبيب لم يحضر بعد فأين ذهبت؟" و "لماذا الانتظار في غرفة الرئيس و هو لم يصل بعد؟ هل ستنزع له ثيابها؟" و"أعتقد أنها قريبة الدكتور." و " قريبات الطبيب لا يمرضن يا مغفلة." و "شفتين الحقيبة؟ رأيت مثلها في مجلة سيدتي ." كنت أنصت إليهن غصباً، لست أدري لماذا كنت أبتلع ملوحة و سخونة في حلقي. لعلها كانت دموع متنكرة!! غادرت الغرفة إلى الشاب قلت له بصوت خافت:" أنا وحدي و أعود إلى منزلي بسيارة أجرة. أتمنى و أرجو و أتوسل أن تدخلني . بحق من حملت بك 9 أشهر و ولدتك!" فقال بفظاظة:" أنا أمي الله يرحمها."فهمت بما أن أمه ميتة أنه لن ُيدخلني اليوم للطبيب.تنهدت و عدت إلى غرفة الانتظار. مرت ساعة ، ساعتين، أطل بعدها الشاب ليقول لنا:" الطبيب عاد إلى منزلة. تعالوا غداً." بما أن الوجه المصفوع، ما عادت الصفعات تهزه، قمنا جميعاً و أخلينا العيادة دون أن ننطق! أغلق الشاب العيادة. نزل المرضى كأنهم يحملون جنازة. بدون كلام. انتظرت نزول الجميع.جلست على الدرج و هبطت جلوساً،تذكرت كم دفعت لكي أتي هنا، و كم سأدفع لعود على منزلي و ضربت الرقم بـ2 لأنني عائدة غداَ. رأيت حشرة أخرى تهبط معي، تجري، تجري ! لماذا تجرين؟ لم تدخلي للطبيب ، أليس كذلك؟ و لا أنا والله. أنا و أنتِ مقصيات ، أنتِ حشرة و مقصية فوق كل أرض لكن أنا يمنية في أرض اليمن فلماذا أكون مقصية؟ نهايتك قد تكون قاع حذاء، نهايتي قد تكون قاع سيارة. وصلت الدور الأرضي فنهضت دون أن أنفض الغبار. عدت على منزلي و ركض أطفالي نحوي. ذهبت رأساً إلى العلاج و استخدمته، طبعت رسالة نصية للطبيب:" اقرأ يا طبيب، أنا استخدمت العلاج ، فإن أصابني شيء الله لا سامحك و لا غفر لك" أرسلتها و قمت لإعداد طعام لصغاري. كنت خائفة. بدأت أتوهم أوجاع في قلبي. لست ادري أي طعام أعددت. لست أدري من أكل. لست أدري إن كنت أنا نفسي أكلت. كنت متوترة و متوجسة شراً.مر أسبوع، كنت قد تحسنت و خرجت للبحث عن عمل.وجدت وظيفة منظفة في بنك. بعد مرور أسبوع وصلت رسالة نصية على جوالي:" الرجاء عدم المؤاخذة، نسينا إنك مصاب بالضغط المرتفع. لا تستخدم العلاج، فقد لا يحتمله قلبك. مر علينا غداً لأخذ اسم دواء بديل."

ذلك الصباح، لم تقرأ الرسالة، لم تقم من سريرها،كان الله قد حررها من الرسائل النصية ، من وجع ركبتها، أطلقها حرة لدية حيث أجواء العافية و الحرية.

  
في الخميس 11 أغسطس-آب 2011 04:13:19 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=11291