تائهون ووطن.....
يونس هزاع
يونس هزاع

مثلما تغادر النوارس شواطئها باحثة عن عوالم أكثر بعدا لتحتوى الضياع الذي يساورها كلما شعرت أن تلك الشواطئ لم تحتوى الألم والأمل .

كان حال الابن كذلك ,وهو يصرخ أملا من أمه أن تتفهم ما يعاني:

سأرحل !

نعم سأرحل فلم اعد أطق كل هذا العناء من أجل لا شيء!

يــاه!! كم أصبحت امتدادا لهذا العناء الذي لا ينتهي!!

علت الدهشة ملامح وجه الأم المغلوب على أمرها ,فكم كانت خائفة من هذا اليوم .فقد تحملت الكثير والكثير مما تعانيه أسرتها بعد وفاة زوجها وكان ولدها عونا لها على ذلك, فظلت ذاهلة لما سمعت .واستطاعت تلك الكلمات أن تدخلها عالم أكثر قسوة وضياعا مما هي عليه, نعم هاهو الابن الأكبر يقرر الرحيل تاركا خلفه أما وثلاثة من الإخوة الصغار.

كلمات قليلة ولكنها أعادتها بشكل درامي إلى بداية التسعينيات حيث أزمة الخليج , كان كل ما يهم زوجها هو العودة إلى الديار مهما كلف الأمر.فكان الزوج يردد دائما (عندما تضيق الأماكن تجد الوطن هو الملاذ الأخير والذي يحتوى انكساراتك وأيامك المتعبة). فأنهى كل التزاماته وباع ما كان يملك و تخلى عن الكثير بثمن زهيد وتركها للآخرين ليعود إلى الديار, كم كانت تغمره السعادة بالعودة إلى الديار.

لم يكن يعي معنى إن يعود خالي الوفاض للوطن إلا من بعض

النقود التي ذهبت في ايجارت للسكن ومصاريف تعود أن يصرفها ببذخ . فلم يجد عمل في ظل النزوح الكبير لكثير من المغتربين آنذاك,وان وجد كان يكفى بالكاد لقوته وقوت أسرته فلم يتقن مهنة ,

تستره من هول ماكان , ولا المال المتبقي يكفى لبداية تجارة ما .كان رهنا لما يحدث من انهيار للاقتصاد,وغلاء المعيشة

الذي منيت به اليمن جراء أزمة الخليج,فأضطر للنزوح لحي لازال رمليا ,فكان الحي غير مأهول بالسكان, ولكن كانت بيوت الصفيح تجتاح المكان معلنة عن نزوح المغتربين العائدين والتي يملؤها البؤس والحرمان, فكانت الحرارة تحرق كل شيء جميل فأصبح الفرح زائر إن أتى ساعة غاب عنهم أياما وشهورا لتكون الكلمة الأخيرة للحزن والشقاء.

عاد ولدها يردد كلماته تلك, فأخرجها من سرحانها اللامتناهي.

الابن :أمي ارجوا إن تتفهمي ما أريد لقد منحت إخوتي الكثير منذ

وفاة والدي, وأنت تعرفين ذلك جيدا!!

ألا يحق لي الآن الاهتمام بنفسي؟

لملمت الأم كل قواها المنهارة والتي تقاسمتها الأيام والظروف

قائلة: نعم اعرف ولكن ياولدي إلى أين ستذهب وتتركنا هنا

كم يخفف عني وجودك بجانبي, فأنت ضوء أضاء الكثير من

الدروب منذ رحيل والدك .

ومن لإخوتك هؤلاء؟!

ألا تعلم إن هذا الموتور هو مصدر رزقنا الوحيد؟!

وبالرغم من كل ذلك

قل لي بالله عليك كيف ادعك تذهب هكذا إلى المجهول؟!

اعرف انك سترحل خلف الحدود.

كم ستكون منبوذا هناك . فأنت وغيرك غير مرغوب بكم هناك

ياولدي

الابن : لا يهم يا أمي ما كان رزقي سأجده إن كان شرا أم خيرا.

إني متعب وسنين عمري تمر ولا شيء يتغير,

لقد أصبحت لقمة العيش طموحا!!

هل نحن نعيش لأجل لقمة العيش قولي لي بالله عليك ؟!

ها أجيبي يا أمي؟!

الأم: قد تتحسن الأوضاع يا ولدي, كم هو ثمين تراب الوطن رغم قسوته , وكم هو صعب أن يضيع الإنسان كرامته في بلاد الغير

فقط لأجل المال؟!

هانحن مستورين والحمد لله

ولا زلنا برغم كل مانعاني أفضل من غيرنا.

الإبن : أمي أرجوك لا تخففي عني ,إن ظروفنا الصعبة أصبحت جزء من ملامحنا نكاد نعايشها ونراها تستفحل يوما بعد يوم.

كم أتمنى إن أعيش في وطني ولا أغادره, ولكن هذا هو قدرنا نحن المتعبون , نحيا ونموت في بلاد الغير كان أبي هناك وها أنا أكمل المسيرة ولكن إلى متى ذلك؟!

متى سيأتي الخلاص ؟!

هل يا ترى هذا قدرنا أم أنها لعنة نتوارثها جيل بعد جيل ؟!!

الأم : لا لن أجعلك ترحل هكذا.

الابن : لا عليك يا أمي لا تخافي

الأم: لن ادعك تذهب إلى الضياع هكذا, كم هو عزيز على أن أرى فلذة كبدي تتلقفه القفار والصحاري حيث لا صديق إلا الظلام والدموع.

الابن : أرجوك لا تقولي هذا, فهناك الكثير ممن في الجوار ذهبوا وعادوا سالمين ولديهم المال الوفير.

هل لديك حل آخر يا أمي؟!

خيم صمت مطبق كأنه لم يكن هنا أحياء منذ أمد فأجابت الأم والحزن يسكن ملامحها المتعبة:

نعم ياولدي لدي ارض في القرية ميراثي من أبي,كم هي غالية على قلبي تلك الأرض, لم يعلم بها احد, وقد تركتها للأيام الصعبة لك ولإخوتك ولا اعتقد إن هناك يوم أصعب من هذا.

خذها واشترى فيزا.وها أنا أبيع اغلي ما املك, علها تمنحك بعض السعادة التي تبحث عنها هناك.

كم هو قاس علي أن تدعى مجهولا في سجلات الآخرين ,وأنت ياولدي, لم تكن يوما مجهولا, فكيف يكون ذلك!!

ولكن لي رجاء واحد منك

لا تنسى وطنك كما اخطأ أبوك من قبل.

بلاد الآخرين ليست هي الحل مهما كانت الظروف .

غمرت السعادة الابن بعد أن علم بتضحية أمه بأرضها لأجله وتخليها عن أرضها التي تعنى لها الكثير. وذهب ليخبراصدقائه انه لن يذهب معهم خلف الحدود, تاركا خلفه أمه التي أظلمت الدنيا في عينها وتملكتها حيرة مطلقة,

وهي ترى ابنها يتوارى خلف ظلام لا تعرف نهايته.

فحاصرتها الكثير من التساؤلات:

يا ترى خطأ من تخبط هذا الشاب التائه؟!

هل هو خطأ الأب الذي نسى وطنه في غربته ونسى أن يؤمن لأولاده ما يقيهم الحاجة وعاد للوطن خالي الوفاض؟!

أم هو خطأ هذا الوطن الذي أضاع أبناءه, ولم يوفر لهم الفرص الحقيقية التي توفر العيشة الكريمة والتي تجعلهم يعيشون في كنفه فأصبحوا تائهين هنا وهناك؟!

تركت كل هذه التساؤلات خلفها,

وذهبت وايقضت أطفالها الصغار وتمنت لهم مستقبلا أفضل .ومن ثم احتضنتهم بدفء واغرورقت عيناها بالدموع.


في الأحد 31 يوليو-تموز 2011 03:43:02 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=11190