مخاض الثورة العسير.. واحتمالات الولادة المشوهة
د/ هيكل المحضار
د/ هيكل المحضار

لفتت مشاركة جميلة إنتباهي على أحد الصفحات الثورية في الفيسبوك يصف فيها صاحبها حال الثورات العربية بشكل بسيط وقريب للدقة نوعاً ما. حيث شبهت المشاركة الثورتين التونسية والمصرية بالولادة الطبيعية، والثورات الليبية والسورية واليمنية بالولادات المتعسرة مع احتمالية تحول الثورة اليمنية إلى عملية قيصرية، أما الثورة البحرينية فقد وصفت المشاركة تعرضها لعملية إجهاض قسرية، أما في لبنان فقد وصفت الوضع بالعلاقة الغير شرعية وأخيراً وصفت الوضع في السودان مزاحاً بالعقم. ولم يجافي صاحب المشاركة الحقيقة كثيرا فالثورات ما هي إلا حالة مخاض تنبئ عن ولادة عهد جديد تعتمد صحته على حالة الأم (الشعب) الصحية ومدى يسر الولادة وتعسرها. ومن الناحية العلمية أو الطبية فإن مخاض الولادة تعرف بأنها حالة فيزيائية أو فسيولوجية طبيعية تمر بها الأم الحامل تنتهي بولادة الجنين، ويشخص مخاض الولادة بالمتعسر في حالة تجاوزه فتره زمنية معينة دون ظهور علامات محدده تشير إلى سير الولادة بشكل طبيعي وعندها لابد من إحالة الحالة إلى طبيب مختص لتحديد نوع التدخل اللازم إجراءه لإنقاذ كل من الأم والطفل اعتمادا على معرفة السبب وراء تعسر الولادة. وتكمن الخطورة على صحة الأم والطفل في حال عدم توفر الشخص المؤهل أو الإمكانيات اللازمة لإجراء مثل ذلك التدخل الذي قد يؤدي إلى وفاة الأم أو الطفل أو كليهما، وفي حال نجاة الطفل قد تكون ولادته وبالاً على أهله لما قد يحل به من إعاقة جسدية أو عقلية بسبب الولادة المتعسرة بين يدي شخص غير مؤهل.

وقياسا على ما سبق و مقارنة بالحالتين التونسية والمصرية فإن ثورة الشباب السلمية في اليمن والتي جاءت لتبشر بولادة يمن جديد بعد حمل أجهد الشعب لأكثر من 33 عاما أصبحت الآن في حكم الولادة المتعسرة بعد مضي ما يقارب الخمسة أشهر دون ان تلوح في الأفق أي من علامات الولادة الطبيعية كما حدث في كل من الثورتين التونسية والمصرية، بل بالعكس ظهرت بعض مؤشرات الخطر التي تستوجب الإحالة لتدخل جراحي عاجل وربما إجراء عملية قيصرية لإنقاذ كل من الأم والجنين. ولإيضاح الصورة هنا لابد من التعرف على مكونات الثورة ودور كل منها في ضمان سلامة الثورة ونجاح ولادتها. فالشباب هم رأس هذا الجنين باعتراف الجميع فهم أول من بدأ الثورة وتولى قيادتها رغم أنهم الأن ليسوا هم من يديرونها بالشكل الحصري وإنما ما زالوا يحاولون البقاء في الصدارة وربما بنوع من شق الأنفس، ويمثل القبائل والعسكر المنضمين للثورة ساقي الجنين واللذان صلبا عود الثورة نوعا ما رغم عدم اكتراثهم كثيرا بالتبعية للشباب وقيامهم في أكثر من مناسبة بتحركات فردية دون التنسيق مع الشباب وأحيانا محاولة فرض رؤاهم وأسلوبهم عليهم. أما بالنسبة للأطراف العلوية (قطاعي المرأة والمهنيين) فكان دورهما مساندا وداعما للشباب ومتناسقا مع تحركاتهم مسلماً الراية بشكل كامل للشباب.

 وخلافا لما يفترض به الحدوث في أي ولادة طبيعية وذلك بخروج رأس الجنين أولا للإعلان عن سلامة الجسد كله وإطلاق أولى صرخات الحرية فقد شهدت أحداث الثورة اليمنية محاولات حثيثة من كل من الساقين على حدة في الخروج أولاً ونيل شرف الزعامة دونما اكتراث لما قد يخلفه تحركهم هذا من إبطاء لعملية الولادة وتعسرها وإلحاق الضرر الجسدي لأعضاء الجسد الأخرى وربما الإعاقة لأحدها. فإصرار القبائل والعسكر على أن يكونوا في مقدمة الثورة ما هو إلا مؤشر خطير على الاحتمالات العالية لحدوث ولادة مشوهة وخروج طفل معاق يظل عبئا على أمه وأهله لسنين قادمة. إلا أن هذا الإصرار قابله إصرار آخر جامح من قبل الشباب للحفاظ على الريادة وأفشلوا عدة محاولات للقبائل والعسكر لخطف الزعامة، وهذا لا يعني أن معركة الزعامة قد حسمت بينهم فلربما يكرر القبائل والعسكر المحاولة وخاصة أن المخاض لا يبدو أنه قد وصل إلى نهايته بعد. إلا أن الخطر الأكبر على سلامة الولادة لم يكن قادما من الساقين ولا من الذراعين كما ذكرت سابقاً وإنما من جزء صغير ولكنه للأسف كان وما يزال حيويا جدا للثورة، ألا وهو الحبل السري. وهنا أقصد طبعا تكتل اللقاء المشترك وعلى رأسهم حزب الإصلاح. فقد كان اللقاء المشترك هو المصدر الرئيسي لمقومات البقاء في الساحات للشباب رغم التحاقه المتأخر بالثورة إلا انه سعى جاهدا منذ انضمامه لاحتواء الشباب وزرع كوادره في قياداتهم ومكوناتهم الميدانية ومدهم بالدعم المادي والمعنوي والتنظيمي حتى لا يلجئوا إلى مصدر دعم غيره وقد نجح نسبيا في ذلك رغم محاولات التمرد اليائسة من بعض حركات الشباب المستقلة. وأستطاع المشترك وبشكل مثير للإعجاب تحاشي الاصطدام بالشباب في أكثر من مناسبة وظل محافظاً على موقعه كمصدر للحياة للثورة انتظارًا للوقت المناسب لأخذ زمام القيادة. ومع قرب الولادة العظيمة واطمئنان المشترك لقدرته على السيطرة على قرار الشباب، قرر المشترك بأن لا يسمح للشباب بالتفرد بزعامة الثورة وخطف ألق الانتصار بعيداً عنه. بداء الحبل السري بالالتفاف حول رأس وعنق الجنين محاولا البروز أولا أو على الأقل مشاركة الرأس أول نسمات الحرية وإدعاء شرف الريادة.

وبالعودة إلى عالم الطب فإن حدوث مثل هذه الحالة من التفاف الحبل السري حول رأس وعنق الجنين يعتبر مؤشر من مؤشرات الخطر في أي ولادة لما قد يتسبب فيه من نقص لإمدادات الغذاء والأكسجين للجنين قبل الولادة. فقبل أن يطلق الوليد صرخته الأولى وتبدأ رئتاه بالعمل يعتبر الحبل السري المصدر الوحيد للأكسجين والذي يعتبر أساسيا في بقاء خلايا الجنين وخاصة الدماغ حية ويؤدي انقطاعه لدقائق قليلة إلى تلف وموت خلايا الدماغ والأعصاب والتي لاتعوض أبداً. ورغم أن الطفل قد يولد حياً إلا أن إحتمالية إصابته بإعاقة ذهنية وعقلية تكون عالية جدا خاصة في حال عدم اتخاذ أي أجراء لمنع حدوث مثل هذا التلف لخلايا الدماغ.

الإعاقة الذهنية ... الخطر الأكبر والأشد فتكا بأي ثورة وأي بلد، فالوطن قد يتعافى من أي صدمات أو أزمات أو حتى إعاقات جسدية ولكني لا أعتقد بأن وطنا بعقول معاقة وهويات مهمشة وذهن مغيب لا يعرف سوى كلمات معدودات.... لا تناقش ولا تجادل.... أو أطيعوا أولي الأمر منكم ....أو كل من ليس معنا فهو مندس وخائن وعميل... لا أعتقد أن ما ينتظره في المستقبل سيكون بأفضل حال من الماضي. فلا دولة مؤسسات ولا دولة مدنية قد ترى النور في اليمن مع هذه الرغبات المميتة في الأخذ بزمام الأمور وإدعاء الوصاية على الوطن بكل الوسائل وإن كان أحداها هو تغييب عقول الناس وإلغاء هوياتهم بحجة أنهم الأجدر والأحق أو الأكثر قدرة وحنكة على قيادة البلد. وما حالة الترقب التي يعيشها المواطنون هذه الأيام وحالة الجمود السياسي والثوري إلا حالة من الاعتراف بتعسر الثورة ووجوب إحالتها لتدخل عاجل إما بالإجهاض أو بمنع الإعاقة الكارثية. وهنا تظهر حقيقة جلية كصاعقة على معظم أبناء اليمن وهي حقيقة أن الطبيب السعودي هو الطبيب الوحيد عالمياً المخول بإجراء مثل هذا التدخل في اليمن. وعدم قبول معظم اليمنيين بهذا الأمر لا ينفي وجودها وأنها واقع ملموس وحقيقة مسلم بها من كل دول العالم وأثبتتها تحركات كبريات تلك الدول وتصريحاتهم منذ بداية الثورة وحتى اليوم. وما يحز بالنفس هنا أن تاريخ التدخلات السعودية في اليمن غير مشرف إطلاقاً ولا يعطي إحساساً بالراحة لدى غالبية اليمنيين. ولا أحد يستطيع أن ينكر أن أحد تلك التدخلات الغير مشرفة، وليس أخرها طبعاً، محاولة الدولة السعودية إجهاض ثورة السادس والعشرين من سبتمبر في مهدها وإعاقة تغيير نظام الحكم باليمن. ولم تتخل السعودية عن تلك المحاولة إلا بعد التسوية الشهيرة بين الملكيين والجمهوريين والتي ضمنت لها ولادة طفل ذو قدرات جسمانية وذهنية متواضعة تجعله في موضع الحاجة الدائمة إليها.

وإذا أخذنا بفرضية أن السعودية لا تكن الود العميق لليمن، كما يتداوله اليمنيون كلهم في أحاديثهم ومقايلهم، بأنها حقيقة مسلمة وأن من مصلحة الجارة الشقيقة عدم ظهور دولة مدنية وجمهورية قوية على حدودها الجنوبية، فإن الخيارات المتاحة أمامها، وهي صاحبة القرار هنا، تنحصر في خيارين فقط لا ثالث لهما. الأول هو إجهاض الثورة تماما، كما قامت به في الحالة البحرينية، والحفاظ على نفس روح وجوهر النظام القائم وإن حتى بأشخاص جدد. وفي هذه الحالة سيكون دور المشترك هامشيا في نظر السعودية ولن تحتاجه إلا في الأطر الشكلية وقد تسمح بقليل من العنف تجاه الشباب. أما الخيار الثاني فيتمثل في القبول بأمر التغيير ولكن في الحدود الدنيا المسموح بها والتي توجب ولادة طفل مشوه او معاق آخر يظل في كنفها بشكل دائم مع السماح بقليل من البريق الذي يوحي بنجاح الثورة ويمتص أي غضب جماهيري ضد النظام الذي سيكون مواليا لها بشكل قاطع. وفي الخيار الثاني يبرز دور وأهمية اللقاء المشترك في ضمان أفضل أنواع الإعاقات للثورة فائدة للجارة السعودية وهي الإعاقة الذهنية. وما محاولات المشترك المستميتة لإبقاء حالة الركود في الساحات ومنع أي تحركات للشباب لا تنسجم مع ما تدعوا إليه من تهدئة إلا دليلاً قاطعاً على قبوله لعب الدور الرئيسي في الخيار السعودي الثاني. ولا نستطيع أن نجزم هنا بأن المشترك قرر لعب هذا الدور عن دراية كاملة بعواقبه إلا أن الحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان هي أن الرغبة الجامحة في تسيد المشهد السياسي في اليمن والوصول إلى سلطة الحكم كانت من القوة بمكان أعمى أبصارهم عن بعض العواقب وألغى إدراكهم لبعض النتائج الوخيمة على الوطن والذين سيكونون هم أول من يعاني منها مستقبلا. فالدولة المعاقة لن تجديها خططهم ولا رؤاهم السياسية ولن تكون وعود السعودية حاضرة حين تفشل إدارتهم لتقيهم لعنات الجماهير.

ورغم إصراري الدائم على التفاؤل بقدرات شباب اليمن على صناعة مستقبل زاهر لبلادهم رغم المعوقات والصعاب وقدرتهم على إحداث نتائج مبهرة من ثورتهم، إلا أن التشاؤم بدأ يدب إلى قلبي كما بدأ يدب في قلوب الكثيرين ممن وقفوا إلى جانب هذه الثورة العظيمة. فحيثيات الواقع لا تبشر إلا بولادة متعسرة ووليد معاق. فقد تجاوز خطر حدوث إعاقة جسيمة لمشروع اليمن الجديد الخطوط الآمنة وأصبح ربما أقرب إلى الواقع الملموس. ولربما لم يبقى لنا إلا أن نأمل في حدوث معجزة إلهية تنقذ أحلام الشباب البائس الذي ظل لخمسة أشهر يفترش الرصيف ويلتحف السماء ويداوي جرحاه ويواري جثامين شهدائه طلبا للحرية والعدالة والكرامة. وأدعو الله أن تكون كلماتي هذه جرس تنبيه لكل من يهتم لهذه الأمة لعلها تتمكن من لفت انتباه من يستطيع أن ينقذ الوطن من دوامة إعاقة جديدة.

وفي الختام، على المشترك عامة والإصلاح خاصة أن يعوا جيدًا حقيقة أن الجزء الوحيد الذي يلفظه الطفل من جسمه بعد ولادته رغم أنه كان سببا في بقائه حيا يوما ما، هو الحبل السري.

الجمعة 24/6/2011


في الأربعاء 29 يونيو-حزيران 2011 05:12:19 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=10849