عرايا من الحماية
سلوى الإرياني
سلوى الإرياني

عندما نكون كالأسلاك المكشوفة، فإننا حتما نكون بشر و لكن عرايا من الحماية. مجرد ريشة،مجرد ذرة غبار،مجرد ورقة خريف،ترفعها إن شاءت و تطيرها الريح. عندما تكون دنيانا الحلوة كالغابة في الليالي الحالكة، أشجارها وحوش أسطورية ، أذرعها مرتفعة فوقها مسنونة، فروعها مخالب،أوراقها أكفان تلوح. نحن فوق طينها البارد مجرد ورقة متكورة ، فإننا حتما نكون بشر و لكن عرايا من الحماية. نثابر و نكافح العمر كله ، كله فعلا، لكن من طيلة الإجهاد نتمنى أن نغفو للحظة و نرفع خرق بيضاء. يسمونها في ساحات الانهزام "راية".

لم اسمع قط عن محارب اتجه إلى ميدان القتال، و هو أعزل و أنتصر!!

لم أسمع قط عن من تغزوا دماغه جيوش الجهل و عبيده من تخلف و تمجيد المظاهر و ترويج الشائعات الفارغة، و تقديس أصحاب المال و الجاه، واستعباد ذوي الحاجة ، و ليس في دماغه بصيرة و لا تفكير علمي و عملي و اتجه لميدان القتال و انتصر.

لم اسمع قط عن من يذله المرض أو تقهره العاهة و الجهل عاهة و الجوع عاهة، و يتجه إلى ميدان القتال و أنتصر!!

الأسلاك الكهربائية المكشوفة، هي أسلاك عارية مثلنا نحن، عرايا من الحماية. أنتَ و أنتِ و أنا...و هم، لا نملك سوى ٍِجلدنا و الًَجًلد..مبعثه إيماننا بالله الحق العدل الواحد الأحد.

دعني أسألك يا صديقي ، ألم ترى ورقة تتطاير في الشارع كتب عليها التلميذ حروف و كلمات، ألف قصيدة رائعة في حب الوطن. سطر جانبي الورقة بالخطوط المستقيمة. مهر القصيدة بتوقيعه. نال عليها من معلمه درجة عاليه. بعدما انتهى رماها إلى الشارع من النافذة. لماذا فعلت ذلك يا فتى؟؟

أجاب بعد تنهيدة :" كثرة الأوراق أثقلت كاهلي. الكلمات فوق الأسطر تنزف. محمله بأثقال و أوزار وأنين. صرخات تقطر من سطورها...تشع من صدر جريح. نحن في عصر القوة و الأوراق النقدية. لسنا في عصر العلم و القلم. القوة تنصرنا و نحن لصوص على أصحاب الحق، تغير وجه الحقيقة، تدنس من كانت سرائرهم عفيفة، الأوراق النقدية و القوة ترفعنا إلى القمم. تخلق فينا ما لم نملك يوماً..تخلق الهمم. أنا فعلا رميت الورقة! أنا لا أريدها، بل أريد القوة في زندي و أريد الأوراق الرقمية،فخذي يا ريح ورقتي. مزقيها فتات. و طيريها يا ريح. قبليها عني، صافحي الدرجة العالية. ابكي فوق توقيعي، حتى تسيل من حبره ساقية. أنا لست منافق و لا مخادع. لكنني ببساطة شاب صريح. ماذا أفعل بالأوراق و القلم..؟ عشت عصر لا توصلني هذه الأشياء فيه إلى ميناء. لن تقدمني في مصاف كبريات الأمم، لن أطال بها أعالي القمم.لكنني أستطيع أن أصل. أملك هذا القلم،سأغير الحال و سأمجد الكتاب و القلم. و العقل و التفكير. أحتاج فقط الحماية."

قصة هذه الورقة المتسخة المرمية إلى جانب علبه عصير فارغة، تحت حجرة. مرمية إلى جانب الورقة حشرة ميتة تأتيها قوافل النمل لترفع فتاتها. ملقي فوقها منديل ورقي رث مثقل بالبلل ، رائحته من عفنها تزكم الأنوف. هذه الورقة موجودة في أحد الشوارع أو الأزقة، لكنها مدركة انها في بلاد هي موطن الظالمين. تستوعب انها ورقه مسكينة، مسكينة جداً يشفق عليها قلب الكافر، ليس لها ملجأ ، لا حماية، لا منحة، لا راعي أمين.

عندما يهبط الليل و يبسط الظلام على الأفق و الشوارع، تحاول هذه الورقة المسكينة أن تفرد قامتها. تحاول أن تتمطى. أن تتفتح لعلها تبعد عن جسدها الثنايا و الكسرات و الالتصاقات. لكن بلا جدوى. لأنها قد تكورت طويلا، قد خطت الأقدام فوقها طويلاً، قد غطتها الأتربة و بللتها قطرات المطر طويلاً. ما عاد لديكِ أمل أيتها الورقة أن تعودي ناصعة البياض أو صلبه القوام. ما أنت إلا كره، تدحرجها و توقفها الريح. تتحركي يا حبيبتي المسكينة من مكان لآخر متكئة على قلم.عموده الفقري لين، ظهره أحدب و منقسم. يحاول الاثنان أن يقفا و يتقدما لكن سرعان ما يهويا أرضاً لأن قواهما خائرة. لكن حاولي يا ورقتي المسكينة ، محاولاتك معظمها هباء ،لكن حاولي ليس لأي سبب سوى أننا في دنيا جائرة. يا حبة قلبي في صدري، حاولي فرد قامتك النحيلة، و لو أنك ما عدتِ ورقة ، و لا جوهرة،و لا قنبلة و لا سنبلة. بل ورقة تضم داخلها بقايا شباب مثقف، ورقة رثة مهملة. صاحت الورقة في وجهي:" هيا، اغربي عن وجهي. لست أحتاج لمن يمعن في تكسير مجاديفي.سأصل إلى تمجيد الإنسان ، بعلمه، بثقافته ، بمؤهله، بخبرته،بسيرته. سأصل إلى دفن كل من يسيرون في مسالكنا بوساطة أقارب لهم ، سأدفن كل الأطفال الذين يستعرضون عضلاتهم بسبب آبائهم... يكفي هذا النمط.. الظالم، القاهر يكفي! سترين كيف سنتشارك أنا و القلم...و سنصل و سنرفع العلم. دون قوة و دون سلاح. سنمجد العلم و الشهادة العالية ستكون جوهرة. و النور في العقول سيكون مدعاة فخر و أوسمة. "

استمعت لمرافعة الورقة. أنصت إليها بحزن... فلم يكن في المحكمة قاضي و لا محامي...و لا حشود مؤيده. لكن يا ورقتي العظيمة سيري معك الله...أنت بنصرة الله جديرة. فقط دعيني أنصحك ، لأنني أكبر منك و أعقل منك... إياك يا عزيزتي أن تكون كخدم مراكز القوى، بل هم عبيد. إياك أن تكتبي الشعر لهم، أو تلمعيهم بالقصائد و تدعي لهم بالعمر المديد. كوني عفيفة ، عصية، لا تكوني مثل أولئك العبيد. أنهم كالطيور الحرة خارج الأقفاص، تخفق أجنحتها و تخفق و تخفق، لكنها لا تطير، فحول ساقيها قيود حديد.

في تلك الأثناء،أتت الريح فاختبأت أنا خلف الريح لأسمع ماذا ستقل الريح للورقة. قالت الريح للورقة:" هيا قومي معي، سآخذك معي في جولتي الليلية. سننثر اللقاح. لتنبت الزهور و تتفتق البراعم. لن تندمي إذا رافقتيني." تدحرجت الورقة بوهن و أجابت:" بودي أن أرافقك لكن جسمي منكمش. كيف أرافقك و أنا ورقة متكورة؟ قطبت الريح جبينها المتموج، و لاقت حاجبيها مجيبة:" سوف أرفعك أنا و أحطك أرضاً برفق.سأتولى حمايتك."

لم تطمئن الورقة لكذب الريح. الريح معروفه تقلب الأوراق.تطير الأوراق. تشرد الأوراق. لا تأبه بالأوراق. لا تلتفت للخلف إذا نقصت الأوراق. فكيف تصدق حمايتها و هي من لا تفقه إلا لغة اللعب بالأوراق . غير أن الورقة كانت قد تعبت و هي تحيا عمرها الوحيد ورقة متكورة، مرمية في شارع فرعي. تساءلت الورقة بسلم:" و ماذا تريدين من رفقتي أنا؟؟" بجبينها المقطب و أوداجها المنفوخة أجابت:" صحيح أنني ريح متحركة. أجعل كل ما حولي يدور و يرتفع و قد يهبط.لكنني أمية. لا أعرف حتى الألف باء.أما أنتِ فورقة مليئة بالأسطر المكتوبة. أحسدك و أحسد رفقتك للقلم. ستكونين لي الدليل ، لأني لا أعرف اتجاه الطرقات."

أنصت للحوار بقلق. خفت أن تقبل الورقة الدعوة. خفت أن لا تفهم الورقة المؤامرة. وقفت الورقة متكورة لا تبرح مكانها. مترددة. أشفقت عليها، القرار صعب يا مسكينة، خاصة و أنتِ عارية من الحماية، و بين ظلام الدار و الليل في الديار أين المسلك و ممن الهداية؟؟؟؟؟

سمعت الورقة تجيب ، عضضت شفتي حسرةً، قالت:" حسنا سأرافقك في رحلة نثر البذور. ستخضر المراعي؟ ستتلون الزهور؟ و تفوح الورود؟ و لتكن هذه مصالحة بيني و بينك. "

ابتسمت الورقة من بؤرة ، لعلها لم تدرك أنها كانت بسمة بداية النهاية. رفعت الريح المغرورة انفها الحاد للسماء. زمجرت استعداداً لبدء الرحلة. كل الزهور في الأراضي المجاورة أخفت رؤوسها بين أوراقها، و أمسكت بيدها قلبها لئلا تطيره الريح.هرعت أنا من خلف الشجرة لألحق بالورقة غير أن الريح سبقتني، دارت دورتها و لفت الورقة معها و راحت....

لم تأت الريح يوماً بخير. ما أن وصلت الريح للساحة حتى فقدت تحكمها في شدتها،أطلقت العنان لجنونها، مارست فطرتها بكل جموح. كان يكفيك شرفاً يا ورقتي أن تتدحرجي رويداً رويداً، و كنت ستصلين هدفك حتماً. أما مشاركة الريح فلم تكن سليمة،الريح تقلب الدنيا رأساً على عقب. فهي خاوية ، لها فعل و لها صوت...و لكنها لا ُتلمس باليد و لا ُترى بالعين المجردة. فهي إذن عميلة، لصة ، جاسوسة و دسيسة. ما أن وصلت الريح لساحة التغيير و الحرية حتى بدأت تلف و تطحن، تقتلع، و تحطم و تفجر و ساوت بيوت بالأرض، طيرت حيوانات و جمال صابرة، قتلت بشر.

هيا يا ورقتي انظري! انظري ماذا فعلت هذه الريح. عدي يا ورقة ، كم قتيل و كم جريح. جرم الريح و لكنك من أعانها..أنتِ أيضاً آثمة و هذا هو الصحيح. غطت الساحة جثث مليون شهيد...و مليون جريح.صاحت الورقة:" أيتها الريح!! أين البذور التي كنا سننثرها، أنا لا أرى إلا ميدان كل من فيه قتيل؟"

لهثت الريح، رائحة أنفاسها أسيد...مسحت جبهتها المغطاة بالأتربة، تراب القبور. متشنجة، أطرافها ترتعد،استدارت للورقة صارخة:" انتهى دورك. دليتني على الطريق.فطيري ، طيري منك كثير.لقد تعلمت منك، و الآن ألقن الكل بسوطي الألف باء." نفخت الريح خدودها و نفخت الورقة بعيداً. غزلت الورقة حول نفسها حين حطتها الريح أرضاً، داخت و لم تع أين هي. ألتفتت يمين و شمال. أين أنا؟ أين الشمس المشرقة؟ أين باقة الآمال؟

انفجرت الورقة باكية. صارحت نفسها، أنها شاءت أم أبت ساهمت في تلك المجزرة. لكن هيهات يا ريح! إذا كنتِ تعتقدين بأنك ستنتصرين! أنا الورقة سأظل أتدحرج و أتدحرج و أحبو و أزحف..و سأصل. سأصل إلى حيث رفعة القلم و نور الوعي و ضياء العقول. سأصل إلى العصر الذي فيه الكتاب وسام..و القلم سلاح و اللسان ملك...و الحق ملحمة. لا تعتقدي إن العصر عصرك يا ريح لأنك بهذا تثبتي إنك غبية. لا تحلمين بنفسك تضعين على رأسك الأعوج تاج، إلا إذا كان تاج الهمجية. لا تتخيلين أن عبيدك سيلفون جسدك المترهل بالحرير،لم تفوزي و لن تفوزي يا غبية. زمجري، اقتلعي، اقتلي، انهبي، اقبري النساء، استعبدي الفتيان الصغار و ركعي الرجال. لكن لا تتوهمي و لو للحظة بانك ستنتصرين. لأن الرجال أسود و الأطفال شهب و النساء أيادي مناعة أبية! سنصدك يا ريح... و لو صارت معركة أبدية. فلا يلهمك خيالك المريض إلى تخيل نفسك تجلسين على الكرسي تنصتين إلى هتافات...و قصائد مديح. لا والله، و لو صرنا جميعاً ذبائح لولائمك و لكن تذكري كيف يكون انتقام الذبيح؟.


في الخميس 02 يونيو-حزيران 2011 05:40:03 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m2.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m2.marebpress.net/articles.php?id=10476