آخر الاخبار
الأستاذ الجامعي ودوره المفقود في قضايا الوطن والمجتمع
بقلم/ د. عبد الله أبو الغيث
نشر منذ: 14 سنة و 7 أشهر و 5 أيام
السبت 15 مايو 2010 08:10 م

استشرى الفساد في فرنسا إثر خروجها من الحرب العالمية الثانية، فاستصرخ الفرنسيون رئيسهم شار ديجول لوقف الانهيار، فأجابهم سائلاً: هل وصل الفساد إلى الجامعات؟ أجابوه لا، فقال لا تزال الأمور بخير.. ولكن ماذا لو أصبحت الجامعات وكراً رئيساً للفساد؟! بل وماذا لو أصبح أساتذتها جزءاً من ذلك الفساد؟ سواء بالمشاركة فيه أو بالسكوت عنه والاكتفاء بالتفرج على السقف وهو يسقط فوق رؤوس الجميع؟؟

حرف الدال: جوهر أم مظهر؟

قد يستغرب البعض طرح هذا السؤال، لكن معطيات الواقع المشاهد هي ما دفعني لطرحه، حيث نرى بعض أساتذة الجامعات وقد اختلط لديهم الحابل بالنابل، وأصبح حرف الدال بالنسبة لبعضهم لا يمثل أكثر من شهادة ورقية وربطة عنق عندما ينزعها لا تعود قادراً على التفريق بينه وبين أنصاف الأميين الذين باتوا يتحكمون في مقدرات حياتنا، حيث تجد ذلك الأستاذ بدلا من أن يحاول استنهاض المجتمع إلى مستواه المعرفي المفترض، يخر هو إلى قاع المستنقع، ويتماهى مع دور التابع المطيع لهم، المبرر دوما لأقوالهم وأفعالهم.. ولا تملك وأنت تستمع إليه إلا أن تسأل نفسك: هل حقاً قضى هذا جل عمره في التحصيل العلمي؟ وكيف حصل على شهادة الدكتوراه ومن أين؟

وهذا ما يجعلنا نقول لهؤلاء وأمثالهم بأن شهادة الدكتوراه ليست إلا جواز مرور لحاملها إلى فضاء واسع يجعل منه منارا للعلم والعطاء والرقي ونبعاً للقيم والمبادئ والأخلاق وقدوة لفئات المجتمع الأخرى.. أما إذا لم يحدث ذلك فلن يكون مصير الأستاذ الجامعي إلا التهميش لدوره، والتعامل معه كديكور للتزيين، وسيصبح لحرف الدال مدلولات أخرى، بدأ المجتمع يرددها ساخرا في الآونة الأخيرة بسبب سلوكيات بعض أساتذة الجامعات.. ورغم كونهم قلة إلا أن السيئة تعم، ولا يكفي أن يكون الإنسان صالحا ليحافظ على سمعته ومكانته وقدره أمام الله والناس، بل عليه أن يكون مصلحاً لمن هم حوله وأن يضرب على أيدي العابثين من أقرانه، لأن المركب إذا غرق فسيغرق بالجميع.

الدور الرسمي.. غاب المأمون وبرز المعتصم

ليس بخاف أن الجهات الرسمية قد لعبت دورا بارزا في إفساد أبناء المجتمع بمن فيهم أساتذة الجامعات، عندما أشاعت فيهم سلوكيات الوصولية والتسلق والابتذال! حيث جعلتها بمثابة المعيار الأهم لاختيار أحدهم لهذا الموقع أو ذاك، ما جعل أصحاب النفوس الضعيفة والأهواء الضيقة يتراكضون في ماراثون سيء ليثبتوا لها أنهم خير من يمثلها، حتى أنك ترثي لحال أحدهم وهو يتذلل ويتسول ويتملق ليعطى بعض فتات السلطة.. وهذا عزز نظرة المجتمع السلبية تجاه أساتذة الجامعات وبدأت نظرته إليهم كقدوة بالتراجع نظرا لسوء النماذج التي قدمت له.

وكم كنا نتمنى لو أن ذلك اقتصر على من يتم اختيارهم لمناصب عامة خارج الجامعات، على أن تترك الجامعات لمن يمتلكون الكفاءة والقدرة والخبرة والنزاهة ليتولوا إدارتها من قمة هرمها حتى قاعدته، لتحافظ بذلك على النبع الذي يمد المجتمع بعناصره المؤهلة، لكن للأسف الشديد أن ذلك لم يحدث؛ حيث تم إلغاء نظام الانتخابات للقيادات الإدارية والأكاديمية في الجامعات وحل بدلا عنه نظام التعيين.. وليتهم في تعييناتهم التزموا بالمعايير المحددة في قانون الجامعات على ضعفها، لكنهم تجاوزوها وأصبح المعيار الرئيسي للتعيين متمثلا بالولاء المطلق وتنفيذ الأوامر دون أدنى نقاش أو اعتراض مهما كانت.

رافق ذلك تضييق للدائرة التي يتم منها الاختيار وحصرها في إطار الانتماءات السياسية والأمنية الضيقة.. وكانت الطامة الكبرى أن بعض قيادات الجامعات اضافت إلى معاييرها الانتماء المناطقي الأمر الذي يجعلك تشعر برغبة في التقيؤ وأنت ترى (أساتذة جامعيين) ينحدرون إلى هاوية هذا المستنقع القذر، بحيث تكون كل مؤهلاتك أمام من يقوم بتعيينك هي أنك تشاركه منابته وجذوره الجغرافية؟!! وكان على هؤلاء أولا ان يحرقوا شهاداتهم ويتبولوا عليها ويقدموا أنفسهم للآخرين بدونها، لأن من يفكر ويعمل بهذه العقلية إنما يقود البلاد إلى هاوية التشظي والانهيار ولا يستحق أن يسبق اسمه حرف الدال أو أن يعد أستاذا جامعيا أصلا.

تجدر الاشارة ونحن نتحدث عن دور أساتذة الجامعات في المؤسسات الرسمية إلى ان سلطات الدولة تنظر إلى حملة الشهادات العليا باستخفاف، وتعتقد بأن مؤسسات الدولة لا تحتاج اليها.. لذلك تقاوم جاهدة ربط مناصب القيادات الإدارية والتشريعية للدولة بشهادات علمية عليا، وتعتمد بدلا عن ذلك على طبقة طفيلية متمصلحة من الجهلة وأنصاف الأميين الذين تغدق عليهم الهبات والعطايا بكرم جم، وتمنحهم اعتمادات شهرية تقدر بالملايين مع سيارات فارهة متعددة ومتجددة وقصور شامخة محصنة وإقطاعيات من الأراضي تحسب بالكيلو متر المربع، بينما تستكثر على أستاذ الجامعة وغيره من مثقفي المجتمع قطعة صغيرة من الأرض يبني عليها سكناً بسيطاً يقيه وأسرته عوادي الزمن والمؤجرين ويجعله يتفرغ للتعليم والبحث العلمي وخدمة المجتمع، حسب ما يفترض أنها وظيفته.

ولذلك إنما يحدث رغبة في تركيع العلماء والمثقفين وشغلهم بالجري وراء لقمة عيشهم لكونهم قادة التوعية والإصلاح والتغيير في مجتمعاتهم.. وقد أفضى ذلك إلى هجرة علماء اليمن وعقولها إلى خارج البلد بعد أن شاهدوا الحكومات المتعاقبة على بلدهم تنظر اليهم وكأنهم عمال نظافة بالأجر اليومي، يمكن الاستغناء عنهم في أي لحظة واستبدالهم بعمال آخرين من أدغال أفريقيا أو آسيا.. والغريب في الأمر أن حكوماتنا تفعل ذلك مع أنها دائمة المطالبة لدول الخليج بتسريح عمالتها الآسيوية وإحلال العمالة اليمنية بدلا عنها!!.

ولأن التاريخ هو ذاكرة الشعوب ومخزن تجاربها المتراكمة عبر العصور أجدني مشدوداً وأنا اراقب الأوضاع الحالية في الوطن إلى العصر العباسي وتحديدا إلى عهد الخليفة المأمون المتميز بعلمه وفلسفته، الذي بلغت فيه الدولة العباسية الإسلامية بشكل عام ذروتها لكونه قد شجع العلم وأكرم العلماء وقربهم إليه وأغدق عليهم العطايا الكبيرة مشجعا لهم على التأليف والترجمة والإبداع.. فجعل ذلك من دولة الخلافة الإسلامية بمثابة مركز الإشعاع الحضاري الأول في العالم آنذاك.

وعندما خلفه أخوه المعتصم نأى بنفسه عن العلماء وقرب إليه قادة الجند لأنه كان قليل العلم منصرفا عنه رغم شهرته التاريخية عربيا التي روجتها قصته مع المرأة المسلمة في معركة عمورية.. وقد أدت سياسته تلك إلى أن يعم الفساد والعبث دولته في أواخر عهده بسبب تسابق قادته على المغانم وانتشار المظالم بين عامة الناس؛ الأمر الذي أدخل الدولة العباسية من بعده في عصر الضعف وأصبح خلفاؤها ألعوبة في أيدي النافذين من الوزراء والقادة، وبدأت ولايات الدولة تنفصل عنها واحدة تلو الأخرى حتى انتهى الأمر بسقوطها وزوالها.. فهل من معتبر؟

دور هامشي في الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني

تتفق الأحزاب السياسية في اليمن بمختلف ألوان طيفها في تهميش دور الأستاذ الجامعي وتنظر إليه نظرة ديكورية هدفها في معظم الأحيان التباهي بما تملك منهم من باب تكثير السواد أو رفد خزينتها باشتراكاتهم المميزة.. ولا تملك هذه الأحزاب أي رؤية استراتيجية للاستفادة من أساتذة الجامعات المنضوين فيها بل إن قيادات هذه الأحزاب غالبا ما تتعمد تجاهلهم وعدم تمكينهم من تحمل أي دور، سواء على المستوى التنظيمي أو العام، بل لا تلجأ إليهم حتى من باب المشورة؛ حيث ينقضي عمر أحدهم ذهابا وايابا من وإلى مقره الحزبي، لا يدري لماذا استقطبوه ولا ما الهدف والغاية من وجوده في الحزب؟

ولعل سبب ذلك يعود إلى المفاهيم التي أصبحت تسود حياتنا سلطة ومعارضة ومجتمعاً، والتي كرست مع الأسف الشديد لتصبح ثقافة عامة مفادها شخصنة المواقع القيادية والتعامل معها بعقلية الامتلاك. والغريب أن كل ذلك يمارس ويسوق على أنه من باب المصلحة العامة، ولذلك طغت السياسة والتسييس على كل شؤون حياتنا وتحكم الساسة الذين عدوا أنفسهم وحدهم الحكماء بكل مقاليد الأمور.

بينما لو نظرنا إلى بلاد الله الأخرى، ومنها عدوتنا إسرائيل، لوجدنا بأن قادة دولتها وأحزابها مثلا لا يذهبون لمحاورة العرب إلا مصحوبين بأساتذة جامعاتهم المتخصصين في الدراسات العربية مثل التاريخ والجغرافيا والدين والمجتمع والاقتصاد وغيرها من التخصصات.. حسب احتياج الموقف. بينما يذهب المحاور العربي مصحوبا بجماعة محنطة من الجهلاء الذين يعدون أنفسهم من عمالقة السياسة وذلك ما يجعل وفودنا عادة ما تعود بخفي حنين.

أما فيما يخص علاقة أساتذة الجامعات بمنظمات المجتمع المدني فالملاحظ غياب أي دور ملموس لهم فيها، سواء قيادة أو عضوية أو حتى من باب المشاركة في فعالياتها.. ولعلنا لا نجافي الحقيقة إذا ما قلنا إن مرد ذلك يعود إلى أساتذة الجامعات أنفسهم لكونهم تقاعسوا عن المشاركة في العمل المجتمعي العام وعد كثير منهم ذلك من باب إضاعة الوقت؛ خصوصا إن لم يكن ذا مردود مادي. وتعلل بعضهم بكثرة المهام وضيق الوقت والانشغال بلقمة عيش الأولاد وتأمين مستقبلهم، مع أن ذلك لم يمنع الفئات الأخرى المنخرطة في هذه المنظمات من القيام بمهامها رغم قلة دخولها مقارنة بهم، والأمر لا يتطلب إلا بعضا من التنسيق وتنظيم الوقت مع إحساس بالمسؤولية العامة بعيدا عن منطق الربح والخسارة؛ خصوصا أولئك الذين اكتفوا بالانزواء وتدثروا باللامبالاة، حيث نرى أحدهم وقد اختط لنفسه برنامجاً يومياً ثابتاً لا يتغير، من البيت إلى المحاضرة إلى المقوات إلى البيت. وتسمع له جعجعة ولا نرى طحنا.. الأمر الذي يجعلك تتساءل: ترى هل يخزن هذا ليعمل أم يعمل ليخزن؟

وإذا ما قارنا أساتذة الجامعات من حيث أدائهم في النشاط العام ببقية فئات المجتمع سنجد أنهم مع الأسف الشديد يقبعون في أسفل الهرم، مع أن مكانهم الطبيعي في قمته.. فقد تقدمتهم فئات المجتمع الأخرى وسبقتهم إلى قيادة المجتمع وتوجيه رؤاه وصناعة وعيه، كالصحفيين والمحامين الذين أصبحوا في طليعة المدافعين عن الحقوق والحريات واستطاعوا أن يوقفوا كثيرا من قضايا المظالم والعبث والفساد.

وينتاب الخجل أحدنا أحيانا لكونه استاذا جامعيا عندما يرى فئات المجتمع الأخرى وهي تعمل من أجل البحث عن حلول لإخراج الوطن من أزماته الراهنة التي تتناوشه، بينما غاب دور أساتذة الجامعات في هذا الجانب إلا في النادر، والنادر لا حكم له.. وسأضرب هنا مثلا بلجان الفئات التي شكلتها اللجنة التحضيرية للحوار الوطني والتي كان منها لجنة الأكاديميين المشكلة من بعض أساتذة الجامعة حيث مثلت أكسل لجان الفئات، ولم تستطع حتى أن تكمل نصابها بالحضور ولو لمرة واحدة، ثم تدهورت أحوالها ودخلت في موت سريري كنت شاهداً عليه بصفتي ناطقها الرسمي. بينما لجان بقية الفئات كانت في معظمها تعمل بوتيرة منظمة كالعلماء والمشايخ والمناضلين والنساء والشباب.

وهذا يجعلنا نتساءل: لماذا يحدث هذا وأين الخلل؟ في أستاذة الجامعات أم في مجتمعهم ونخبه الأخرى؟ وكيف يتسنى لأساتذة الجامعات الخروج من حياة الركود واللامبالاة التي استهوتهم أو فرضت عليهم؟

لا مكان للمتفرجين.. والوطن ملك الجميع

إن إجابات التساؤلات المطروحة آنفا معروفة لنا وليست مبهمة وقد وردت معظمها في ثنايا المقال؛ فالملاحظ أن الإفساد الذي تعرضت له ثقافة المجتمع ونخبه قد طال أساتذة الجامعات ربما أكثر من غيرهم.. وقد يعود ذلك لإحساس النافذين المتحكمين بمقدرات حياتنا جماعات وأفراداً، بأن أساتذة الجامعات هم من سيحلون بدلا عنهم إذا ما سارت الأمور في مسارها الطبيعي.

وبنظرة سريعة إلى تجارب الأمم الأخرى سنجد أن نهضتها لم تتم إلا عندما احترمت العلم وأكرمت العلماء. وما تجربة اليابان وكوريا الجنوبية عنا ببعيد، ومعها تجارب كل البلدان المتقدمة التي تحرص على استقطاب العلماء من مختلف أنحاء العالم لتحافظ على ريادتها. بينما نحن ننظر لعلمائنا بأنهم من سقط المتاع، وتحرص نخبنا المتنفذة على تكريس النظرة الدونية تجاههم.

لكن الأخطر من ذلك كله هو التهميش الذاتي الذي يكرسه أساتذة الجامعات في حق أنفسهم، رغبة أو رهبة أو تكاسلا، ومع ذلك يبقى هناك بعض من أستاذة الجامعات الذين تناسوا مصالحهم وحملوا رؤوسهم على أكفهم من أجل هذا الوطن ومصالحه العليا وهم معروفون ويشار إليهم بالبنان ورغم كونهم قلة وجهودهم غير منسقة وموحدة، إلا أن المؤمل فيهم أن يوقظوا المفهوم الحقيقي للجامعات وأساتذتها لدى بقية زملائهم أولاً، ثم لدى المجتمع عامته وخاصته، على طريق بناء وطن حر يتسع لكل أبنائه، على أساس من الشراكة الوطنية في تعميره وحمايته وتقاسم سلطاته وثرواته، وفق منظور من العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية شاملة كل ألوان الطيف السياسي والجغرافي والفئوي، ويبقى لكل منا انتماؤه والوطن للجميع.