آخر الاخبار
هل بات العرب يديرون البيت الابيض
بقلم/ دكتور/فيصل القاسم
نشر منذ: 6 سنوات و 8 أشهر و 27 يوماً
السبت 24 مارس - آذار 2018 07:38 م



لا شك أبداً أن أمريكا دخلت التاريخ من أوسع أبوابه على أنها بلد اللوبيات وجماعات الضغط بامتياز، وأن من ينتخب المسؤولين الأمريكيين ليس الشعب الأمريكي أبداً، بل الجماعات التي تدفع وتوصل أعضاء الكونغرس ومجلس الشيوخ إلى مناصبهم. ويقول العارفون ببواطن لعبة التحكم السياسي في أمريكا بأن أعضاء المجالس الحاكمة يحتاجون ملايين الدولارات في حملاتهم الانتخابية كي يخوضوا الانتخابات وينجحوا ويصلوا إلى السلطة، وهو أمر لا يمكن أن توفره لهم سوى الشركات الكبرى والممولين وأصحاب الثروات. ولا ننسى أن معظم بلدان العالم تعمل على تشكيل جماعة ضغط لها في أمريكا للتأثير على السياسة الأمريكية تجاه القضايا المتعلقة بكل بلد، خاصة وأن الجميع ينظر إلى أمريكا على أنها سيد العالم وحاكمه الأوحد. حتى إيران التي تهاجم «الشيطان الأكبر» ليل نهار لديها جماعة ضغط مؤثرة جداً في مراكز صنع القرار في أمريكا. وحتى الرئيس السوري نفسه لديه رجال أعمال سوريون أمريكيون يحاولون التأثير لصالحه في وسائل الإعلام ومراكز السلطة والمؤسسات الكبرى في أمريكا.
تعالوا نتفق إذاً أن مئات اللوبيات الداخلية والخارجية تعمل داخل الساحة الأمريكية خدمة لمصالحها الخاصة لدى المؤسسة الأمريكية الحاكمة. لكن السؤال المطروح، هل فعلاً أن جماعات الضغط هي من تفرض سياساتها وتوجهاتها ومصالحها على صانع القرار الأمريكي مقابل الأموال التي تضخها في مجرى الاقتصاد الأمريكي؟ هل فعلاً يتم شراء السياسات الأمريكية المتعلقة بهذا البلد أو ذاك؟ هل يمكن للرئيس الأمريكي والوزارات السيادية أن تعمل لصالح المتبرعين الخارجيين لمجرد أنها تحصل منهم على دعم مالي؟ الجواب على هذا السؤال: بالطبع لا، فالولايات المتحدة على العكس من ذلك تستغل الجميع من أجل المصلحة الأمريكية الكبرى. وإذا فعلاً أرادت أن تكافئ الذين يدعمون لها الاقتصاد الأمريكي بالصفقات الكبرى، فيمكن أن تقدم لهم فتات الفتات، وتنقلب عليهم متى شاءت، فالسيد لا يمكن أبداً أن يخضع لأوامر العبد مهما قدم له العبد من خدمات جليلة، فالسيد يبقى سيداً والعبد يبقى عبداً في المفهوم العام.
وبالتالي فإن الحديث عن أن العرب باتوا يتحكمون بالبيت الأبيض أقرب إلى التهريج منه إلى الواقع. ليس هناك شك أن الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب لديه صداقات مع العديد من الشخصيات العالمية كالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وغيره من المسؤولين العرب وغير العرب، لكن البيت الأبيض لا يمكن أن يكون لعبة لا في يد الروس ولا في يد العرب مهما ضخوا من مليارات وحتى تريليونات في الاقتصاد الأمريكي. فالرئيس الأمريكي ليس كالزعيم العربي بيده كل مفاتيح السلطة، بل هو مجرد عزقة في آلة كبرى يشارك في صنع القرار فيها مئات الجهات والمؤسسات الأمريكية، بما فيها الشركات العملاقة والكنائس والجامعات والجمعيات والمجتمع المدني ووسائل الإعلام والكونغرس ومجلس الشيوخ والقضاء، وكلها تراقب حركة السلطة عن كثب.
لاحظوا وضع الرئيس الأمريكي المسكين الآن كيف يتعرض ليل نهار للفضائح والضربات من كل حدب وصوب. مرة يتهمونه بأنه متآمر مع الروس للوصول إلى السلطة، ومرة يتهمون صهره كوشنر بأنه يستخدم السلطة للحصول على صفقات تجارية مع بعض البلدان. كل شيء تحت المجهر في أمريكا، ولا يمكن لأي جهة خارجية مهما امتلكت من قوة وتريليونات أن تجيّر السياسة الأمريكية لصالحها إلا إذا كان ذلك في مصلحة أمريكا في المقام الأول. ألا ترون كيف يلاحق المحققون والإعلام البيت الأبيض ورئيسه ليل نهار، بحيث لا تنتهي فضيحة حتى تبرز أخرى؟
بعبارة أخرى، فإن كل من يضخ المليارات في أمريكا فهو للحصول فقط على الرضى الأمريكي، وليس لتجيير السياسة والمصالح الأمريكية لصالحه. الجميع مجرد بيادق في أيدي العم سام. ولا ننسى أن روسيا التي تقدم نفسها الآن على أنها ند للولايات المتحدة على الساحة الدولية، ضخت قبل فترة أكثر من مائة مليار دولار في سندات الخزينة الأمريكية كنوع من التقرب من الإدارة الأمريكية التي تضيّق الخناق على الروس عسكرياً واقتصادياً وسياسياً في كل حدب وصوب. هل لاحظتم كمية العقوبات التي فرضتها أمريكا على روسيا في أكثر من مجال، هذا في الوقت الذي يتحدث فيه البعض عن علاقة خاصة تربط ترامب ببوتين، فكيف، يا ترى، لو لم تكن هناك علاقة خاصة بين الرئيسين الأمريكي والروسي؟ ماذا كان يمكن للرئيس الأمريكي أن يفعل بروسيا؟
ضحكت كثيراً بالأمس عندما قرأت تعليقات بعض العرب الذين يتفاخرون بأنهم كانوا وراء إعفاء وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون من منصبه لأنه يقف ضد إلغاء الاتفاق النووي مع إيران؟ وهل العرب يقررون استراتيجيات أمريكا النووية؟ وهل يستطيع تيلرسون أصلاً أن يعرقل مثل هذه الأمور إذا قررت الدولة العميقة أو مجلس الأمن القومي إلغاء الاتفاق؟ رحم الله امرأً عرف قدر نفسه فوقف عنده يا عرب. وهل تستطيعون فعلاً أن تتلاعبوا بالسياسة الأمريكية وبمسؤوليها بهذه الخفة؟ وأين مؤسسة الأمن القومي الأمريكية والدولة العميقة من هذا، لو حصل فعلاً؟ شيء يبعث على الضحك. دعونا نعترف أن محل العرب في السياسة الأمريكية في محل مفعول به، أو في محل مجرور في أفضل الأحوال، لا أكثر ولا أقل. لا يمكن لأمريكا أن تدعم قضية ما لأجل القضية نفسها، بل لأجل المصلحة الأمريكية ذاتها. وقد قالها ثعلب السياسة الأمريكية الشهير كسنجر ذات مرة: « ليس من مصلحة أمريكا أن تحل أي قضية في العالم، بل من مصلحتها أن تدير الأزمات فقط لمصلحتنا الخاصة». وهذا يعني أن أمريكا تخلق الأزمات كي تتاجر بها لمنفعتها الذاتية. حتى اللوبي الإسرائيلي الرهيب في أمريكا يعمل بما يتماشى مع المصلحة الأمريكية الكبرى، وليس العكس.
ضحكت أيضاً قبل أيام عندما سمعت الرئيس ترامب وهو يقول إنه سيضغط على السعودية كي تلعب دوراً أساسياً في حل الأزمة الخليجية، كما لو أن أمريكا لا علاقة لها بالأزمة بالأصل، وليست هي من حركها، وأشعل نيرانها قبل وأثناء زيارة ترامب «التاريخية» الأخيرة للسعودية. الجميع يعرف أن الأزمة الخليجية من صنع أمريكي لأهداف أمريكية بحتة، وأن الذي يطيل بعمر الأزمة هي المصلحة الأمريكية وليس الخليجية أبداً. ولو كانت الأزمة تعارض المصالح الأمريكية لما اندلعت أصلاً.
أخيراً دعوني ألخص لكم اللعبة الأمريكية وعلاقتها بجماعات الضغط الخارجية وكيف تستغلها لصالح أمريكا بهذه القصة الحقيقية. سألوا مسؤولاً أمريكياً قبل غزو العراق: «هل يعقل أن أمريكا العظمى تسير وراء سياسي عراقي بسيط اسمه أحمد الجلبي سيورطها بغزو العراق بناء على أكاذيب وفبركات أسلحة الدمار الشامل وغيرها؟ هل يعقل أن ذلك السياسي العراقي الأفاك يخدع أمريكا سيدة العالم، ويقودها بالكذب والدجل لغزو العراق»، فرد المسؤول الأمريكي ضاحكاً: « نحن نعرف أن أحمد الجلبي يكذب في كل كلمة يقولوها لنا، لكن كذبه مفيد لنا جداً في هذه المرحلة، على مبدأ كذبك حلو، لهذا نتظاهر بأننا نصدق كل ما يقوله لنا الجلبي، لأنه يخدم الاستراتيجية الأمريكية التي وضعناها للعراق قبل أن يخلق الجلبي». ومما يؤكد ذلك أن أحد الصحافيين سأل الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن لاحقاً عن أسلحة الدمار الشامل العراقية التي كان يتحدث عنها أحمد الجلبي، فضحك الرئيس، وسحب درج المكتب أمامه، وقال ساخراً: «قبل قليل كانت الأسلحة في درج المكتب هنا، لا أدري أين تبخرت».
نرجو من المسؤولين العرب الذين يتفاخرون بقدراتهم العجيبة في التحكم بالبيت الأبيض أن يتعظوا من قصة أحمد الجلبي. وسلامتكم.