تجربتي مع الإصلاح 4
بقلم/ د.مروان الغفوري
نشر منذ: 10 سنوات و شهر و 26 يوماً
الجمعة 24 أكتوبر-تشرين الأول 2014 11:58 ص

.. أصبحتُ ممثلاً، وكنتُ أكتب الاسكربت المسرحي، والمسرحية الشعرية القصيرة، ثم أشترك في التمثيل. تعرّفت على أنور الطشي، وكان ممثلاً كوميدياً موهوباً فقد كل مهاراته عندما انتقل من الماجستير إلى الدكتوراه. ذات مرّة كنا نتدرب على تمثيل مسرحية فتجلّى أمامنا عبر موّال ساحر. كان أنور ذا صوت نقي، على وجه الخصوص في المواويل. سألته ونحن في الأسنسير ما إذا كانت "وا مغرّد بوادي الدور" التي شدا بها أغنية فقال نعم، هي أغنية. "أغنية يمنيّة؟" سألته، فقال إنها أغنية يمنية.

كنتُ شخصاً كئيباً في المجمل، ولم يكن لدي الكثير من الأصدقاء. فعندما وصلتْ دفعة طلابية جديدة في واحدة من السنوات وقف أحد الطلبة الأكثر خبرة أمام المجموعة ليزوّدها بنصائح ومعلومات حول كيف تجري الأمور في الجامعات المصرية. من بين نصائحه "لا تستمعوا للغفوري" قال لهم. قاطعه أحد الطلبة الجدد مفزوعاً "لحظة، قلت لي إيش اسمه؟" فقال الشاب: اسمه مروان الغفوري، متعالي، ومغرور، ويستحسن أن لا تسألوه لأنكم لن تحصلوا على أي إجابة واضحة منه. أخرج الطالب الجديد ورقة من جيبه وقطعها، ثم رماها في قاع الغرفة. كان فاعل خير قد التقاه في مبنى التعليم العالي وعندما عرف أنه في طريقه إلى مصر كتب له ورقة صغيرة ودسّها في جيبه قائلاً: كن على تواصل مع هذا الطالب، سيفيدك.

وفي كل مرّة كانوا يسألونني "هاه، ما أخبار هشام الحربي" وكنتُ أقول لهم اعفوني من هذه المهمّة. كانت عين الإصلاح مفتوحة على الشاب هشام الحربي، وكان الحربي صديقاً وزميل سكن. تقاسمنا شقة واحدة لحوالي خمسة أعوام. كان الأول على الجمهورية في العام الذي سبقني، ونال تقدير "امتياز مع مرتبة الشرف" من جامعة عين شمس. اتهمت في الحزب بالتقصير "كيف تفرّط في كسب شخص مثل هشام الحربي" ولم أكن أجد جواباً. وكنت أسأل صديقنا الحمّادي عن أفضل الطرق لجر قدم هشام إلى الحزب، وكان يرد عليّ ونحن في الطريق إلى صلاة العصر في جامع عبير الإسلام "ابرِد لك، مشتقدرلوش، الحربي ملعون، قل للأخضر الإبراهيمي لو بك طافة روح انته نسّبه". كان الحمادي شاباً إصلاحيّاً، من أكثر الناس ذكاء وموهبة، وكان من أوائل الجمهورية في القسم العلمي، يكبرني بأربعة أعوام. كان مهذبّاً جدّاً، صديقاً لي أنا هشام. ورغم أنه كان شديد التديّن، خجولاً، وانطوائي إلى حد بعيد إلا أنه كان أحياناً يظهر معرفة عميقة بشؤون المرأة، وفنون العشق. وفي كل مرّة كنّا نرى فيها تلك الفتاة الصغيرة المربرة التي يصطحبها أبوها للصلاة كان الحمادي يهمس في أذني "باقي لِه سنة" وكنتُ أقول له "لا يا ابني، عاده زغير" وكان يرد "والله انته اللي عادك جاهل مش هيه". أما الأخضر الإبراهيمي الذي كان يقصده الحمادي فكان شخص اسمه زبارة، كان مثقفاً رائعاً، وكان يتنقّل بين الأسر كمنسّق عام للحزب. على أن هذه ليست رتبة تنظيمية حقيقية.

قبل عامين قرأت مقالة لمحمد أبو الغيط في الشروق المصرية. بفنّية عالية كتب أبو الغيط عن لحظة دخول مرسي القاعة الرياضية. كانت الجماهير تردد بصوت واحد نشيداً إخوانياً معروفاً وكان أبو الغيط يتابع المشهد في مقهى، وسمع النادل يصيح "ازّاي الناس دي كلها حافظة نشيد ولا حد فينا يعرفه؟". ذلك المشهد، وتعليق النادل، يعكس بالتفصيل العزلة الشعورية الشاملة التي عاشها الإسلاميون. ضمن الثورة العربية الجديدة، وثورة الفيس بوك انخرط الشباب الإسلامي بالمجتمع لأول مرّة بصورة حقيقية. فقد كانت مناسباتهم خاصّة، نكاتهم خاصة، أغانيهم خاصة، مشاعرهم خاصة، وأبطالهم مختلفون. كان قطّب يعلمهم "الاستعلاء" وكان سعيد حوّى يدرّبهم على الانسحاب الشعوري والعاطفي عن المجتمع. وذات مرّة سألتني فتاة طيّبة القلب "قالوا لي إنك إصلاحي؟" وأجبتها "فعلاً". ارتبكت أو أحرجت، لكنها تماسكت في الأخير وقالت لي "أنت متأكّد"؟ لكني قلتُ لها إني مثلها، لستُ متأكداً.

يمكن للإصلاحي أن يكون منبسطاً، أو انطوائيّاً، لكنه ليس إرهابيّاً. لا علاقة لهذا التنظيم بالإرهاب، ولا بالعنف، بل تغلب عليه حقيقته الصوفيّة وتقوض منجزه السياسي. على مدى سنين طويلة داخل الحزب لم ألمح، بالمرّة، ما يدلّ على وجود ميليشيا مسلّحة للحزب. على العكس من ذلك فإن الطبقة التي يتحرّك الحزب داخلها هي الطبقة الوسطى، وطلبة الجامعات، فضلاً عن طبقة المعلمين والمهنيين والموظفين البيروقراطيين. وهؤلاء لا ينتجون ميليشيا، بل حركة سياسيّة. لا تكمن قوة الإصلاح في عمران بل في القطاع الطبّي، وفي المدارس، والجامعات. لم تكن عمران الدبابة الأخيرة للحزب، ولا المدفعية طويلة الماسورة. فحتى ما قبل 2012 لم يكن للحزب أي مقر/ مكتب في عمران. لهذا لا يمكن تقويض الحزب الكبير عبر تخريب شبكة علاقاته القبلية، فالكتلة الضخمة للحزب تقع خارج تلك الشبكة. باستطاعة أي قوة داخلية أو خارجية أن تهزم آل الأحمر، وأن تستحوذ على جامعة الإيمان والفرقة المدرّعة. فقد شاهدت، عمليّاً، كيف يبنى الحزب بصورة صلبة. كنّا نحتفل بتخرّج الدفع الجديدة في واحدٍ من مسارح القاهرة، في المنيل، سنويّاً. في المرّة الواحدة يجري تكريم أكثر من 300 خريج، تتنوّع درجاتهم من البكالوريا حتى الدكتوراه، ويكون عادة للإصلاح نصيب ملحوظ داخل هذه القوة الناعمة. وليست مصر سوى مثال واحد، وحسب. ينقص الإصلاح على الدوام إصلاح ثقافي ضخم في الداخل. مع الإصلاح يصعب أحد أمرين: اتهامه بالإرهاب، والتشكيك في وطنية الحزب واستعداده للبذل في الأزمنة الحرجة.

لو رددنا هذه العبارة ثلاثين مرّة سنقتنع بها: قضت حركة الحوثي وحلف صالح على حزب الإصلاح. الإحصاء الرقمي، ويا للغرابة، لا يعترف بكل هذه الظنون والتقديرات. لا تزال الكتلة التي بناها الحزب صلبة، زادتها فكرة "الأعداء من كل جانب" تماسكاً مادياً وعاطفياً صلباً. ففي الأيام الأولى للثورة فكّرت توكل كرمان بتأسيس حزب سياسي. لكن النيران فتحت على حزبها من كل الجهات فقالت لي توكل "وأني أشوف العداء ضد الإصلاح قلتُ ما فيبوش سخى".

لدى الإصلاح أوهامه الكبيرة، لكن تزايد نسبة "الطبقة الجديدة" في الحزب منحته ديناميكية غير مسبوقة في تاريخه. هذه الدينامية هي التي تمنحه القدرة على امتصاص الصدمات دون أن يضطر للعودة إلى العمل السرّي من جديد. بعد عشرة أعوام سيموت اليدومي ورفاقه الذين حضروا بدْر، وسينتعش حزب الإصلاح من جديد. أي سيكون أكبر قدرة على الاندماج في الحضارة الراهنة والمساهمة الثقافية بصورة أكثر وعياً وإنسانية. يجري تذكير الحزب بمشاكله العميقة على مدار الوقت، وينسى اليساريون والقوميون مشاكلهم. بمعنى عملي: يتذكر الإصلاح كل يوم أنه قد آن الأوان لإجراء تصحيح شامل في بناه الثقافية والمادية، لكن الآخرين لا يحصلون على هذا التذكير. ولو أجريت عملية عد أصوات، انتخابات، حالية في اليمن فإن الإصلاح سيحوز المركز الثاني مباشرة. سيكون المستقلون الذين ملوا كل هذا السيرك في المركز الأول. أما الحوثيون فسيحصلون في محافظات مثل إب والحديدة على أصوات نقاط التفتيش الخمسين التي نصبوها في المحافظتين، أي 500 صوتاً ضمن 2مليون نسمة. فالبنادق تعطي فكرة خاطئة عن الوزن السياسي.

أما إذا كان الحزب الإسلامي الذي تسكنه أوهام العودة إلى الخلافة الإسلامية عبر صناديق الاقتراع سيسقط على يد جماعة إسلامية مسلّحة لا تعترف بالسياسة وتسكنها أوهام العودة إلى دولة الولاية الإسلامية الحصرية عبر البنادق فإن النتيجة المدمّرة لن تخص الإصلاح بل اليمن كتاريخ ومستقبل، أي اليمن التاريخي.

المقالات السابقة

الجزء 1 هنــــــــــــــــا

الجزء 2 هنـــــــــــــــــا

الجزء 3 هنــــــــــــــــــا