آخر الاخبار
آلية التأمل ومنهجية التفكر في الكون والإنسان والحياة
بقلم/ هائل سعيد الصرمي
نشر منذ: 10 سنوات و 3 أشهر و 14 يوماً
الجمعة 05 سبتمبر-أيلول 2014 03:24 م

إن التفكر في الكون من أسما مراتب العبودية لكنه ليس بالأمر الهين فهو يحتاج إلى جهد وفق آلية محددة وشروط واضحة ,تبين مسار الوصول للتأمل السليم .

فإن للتفكر والتأمل منهجية معينة ’ من سلكها وصل بإذن الله ’ فمنهجية التفكر القويم التي من خلالها يتكون تصوراً حيا للوجود وخالقه ’ تصورا عقديا سليماً متناغما مع الكون ومنسجما مع الفطرة , بحيث يكون مرتبطا ارتباطا وجدانيا بالكون’ وإيمانيا بالله , تصورا يبعث على الرضا والطمأنينة , لنتتبع ذلك من خلال أوامره سبحانه في هذا الشأن العظيم. 

فالحق سبحانه وتعالى يدعونا آمراً للالتفات إلى آيات الكون لنتعرف عليه سبحانه من خلالها , فيتكون لدينا تصورا يخلق مساراً سلوكيا راشدا وتوحيدا ربانيا خالصا ,وألفة تذهب الوحشة مع كل مخلوقات الله... قال تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }(192) آل عمران

   إن عملية التَّفّكُّرْ في آيات السموات والأرض ليست أمراً هينا يمكن أن يتناوله أي شخص بسهولة متى شاء وكيف شاء , كلا إن الأمر يحتاج إلى همة عالية, وأهبة وإعداد , إنه لا يتسنَّى رؤية آيات السماوات والأرض الرؤية المبصرة الحية إلا بقلب حي متفتح يسعى حثيثا لذلك... فلا يتم الدخول في تناغم وجداني مع الآيات المبثوثة في الأرض والسموات وتذوق حلاوتها والتعرف على أوصاف مبدعها , إلا بشروط ثلاث , بينتها الآيات السالفة , الشرط الأول أنها حصرت ذلك على أولي الألباب ــــ أصحاب العقول ــــ لقوله تعال:( إن في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، لآيات لأولي الألباب).وهم كل من عرفَ الحق واهتدى إليه , ثمَّ الشرط الثاني وهو الذاكرون الله كثير .. لأن الأول لا يكفي وحده للوصول إلى حدائق التفكر ! فالعقل وحده يحتاج إلى طاقة روحية , يستمدها من القلب الذي يتم تعبيته بها عن طريق الذكر بكل أنواعه فمن الذكر والأعمال الصالحة يرشف القلب طاقته الأولى , ويوزع هذه الطاقة إلى جميع أعضاء الجسد ومنها العقل الذي يأخذ أوفر الحظ وأكبر النصيب لماذا, ليعمل ويضيف طاقة أخرى من مجهوده يوزعها القلب بعد أن يأخذ منها النصيب الأوفى, وهكذا عملية دورية دينامكية نامية ومثمرة بينهما...فالقلب والعقل متعاونان يكمل بعضهما البعض فلا غنى لأحدهما عن الأخر.

فلا يتفكر العقل إذا لم يكن يفيض عليه القلب بطاقة من فيوض روحانيته ولذلك ليس أي قلب بل القلب الحي المفتوح المهيأ لاستقبال آيات الكون , وهذا القلب عزيز لا يكون كذلك إلا بالذكر ليس أي ذكر بل الذكر المتواصل .

 ..قال تعالى: "الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم .. ليس ذكرا محدودا في وقت معلوم إنه يستوعب التقلبات المتنوعة لأحوال العبد عبر أوقاته كلها , ومضمون ذلك الإكثار من ذكر الله ـ عز وجل ــ وديمومة الاتصال به , بمعنى أن العبد الذي لا يكون ذاكرا لله على كل أحواله , لا يكون مكثراً , وبالتالي لا يتأهل للوصول إلى ميدان التفكر , ! لأنه لا يكون من أولي الألباب الموصفين بالذكر الكثير , فأولي الألباب ليس جميعا موصوفين بالذكر الكثير منهم المقل ومنهم المكثر , ولا يفتح الباب فتحا كاملا إلا لمن يتحقق بتمام الشروط وكمالها ... ولو حقق العبد بعضها, ينال بحسب جهده وذكره , والذروة تقتضي الإيفاء. فكل ما كان العبد مشغولا بالله أكثر كان ميدان فكره أكبر , وإن اختلفت وسائل الذكر وطرائق الاتصال في ذلك , فالمنشغل بالله يسمى ذاكراً سواء كان ذكراً عملياً أو قو لياً أو غيره من سبل الذكر , فالتقوى ذكر والدعوة لله ذكر إلخ...فكلما سيطر ذكر الله على الضمير والشعور سيطرة كاملة وبصورة دائمة كما فصلتها الآية قياما وقعودا وعلى جنوبهم , وجدت الفائدة وتحقق المراد ؛ لأن هذا الذكر وظيفته إذابة غشاوة القلب , وتصفية أكنَّته ورانه , الذي يتكون من المعاصي والغفلات والانشغال بالدنيا وطلب الرزق وغيرها من مطالب الحياة والجسد ؛ ولأنها مصاحبة له عبر أوقاته في معركة الحياة... لذلك فهو يحتاج إلى طاقة علية لتصفية قلبه وشحنه , محوا وإثبات؛ ليصبح قلبا حيا مستعدا لتلقي آيات الله. والتعرف على صفاته وأسراره, وتلك لذة لا تعدلها لذة. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

إذا ما كنت ترجو الله حقا   فــــأدي الذكر في عسر ويسر

فذكر الله بلسم كل جرح        وسَبْحُ تأمُّلٍ وسمو فكــــــــر

    فبعد أن يتهيأ القلب يبدأ عمل الشرط الثالث وهو التفكر, وذلك بالتفاتْ العقل إلى الكون ليتفكر , كما قال تعالى(ويتفكرون )فيستقبل القلب الآيات ويتقلب بين معاني الأنس والمعرفة والخشية !!! فعندما يمعن في التفكر , يبث له الكون بأسراره و يكاشفه بأخباره.

من يجهل الكون البديع وحسنه لن يلقى نجو الروح في الخلوات

أجهلت هذا الحسن لو أبصرته   لوجدت روحك بعد طول شتـات

ولصرت في روض السرور مغردا  تشدو كشدو الطير في الفلوات

 إنه يتعانق مع الموجودات تعانقا وجدانياً ـــ تلك الآيات التي كان يراها جامدة , ولا يجدها قريبة منه , إنه يجدها اليوم لصيقة به , قريبة من نفسه , كأنه يعرفها من زمان بعيد , وكأن بينه وبينها مودة وألفة , إنه يجد حميمية مشتركة , لمسيرة واضحة , على أهداف محددة محببة , يقومان بها وينسجمان في تنفيذها , ومن هذا الإحساس , تصبح هذه الآيات للقلب مؤنسة , فتمتزج آماله وأشواقه بها , فهي وحدها من تفضي إليه , وتخصه دون سواه بما تخصه من نجوى وجمال وأسرار , فيتحاور معها كما يتحاور الحبيب مع حبيبه , والصديق مع صديقه , في انسجام , , فلا يجد أنسه إلا بها ولا راحته إلا عندها , كل آية حبيبة لديه , تعددت حبيباته , وكثر أصحابه فاستغنى عن سواها حتى من أصدقائه البشر , فهي لا تغيب كما يغبون , حيثما التفتَ وأنَّى توجهَ وجدها , هيهات أن يدهمه الغم والكدر وهو يتأملها أو يدلف إليه الملل وهو يرى مكوكبها ومبدعها.. فالقلب يأنس بحبيب لا يغيب ويتعرف على خالقها بقلب وجيب.

أنَّى التفتَ رأيتَ الله.. آيتهُ  تنبئكَ عنهُ فقل يا ربُّ سبحانك

في كل ناحية أوصافهُ مثلتْ  انظر إليه وقل يا ربُّ سبحانك

هذي بدائعه أنهارها انبجست وأنت منها فقل يا رب سبحانك

إذا غفلتُ تأمل فضل نعمته حال الوصال وقل يا رب سبحانك

وانظر له عندما أخلى رعايته وارجع إليه وقل يا رب سبحانك

وإن اصبت بضيم لذ بحائطهِ واطلبه نصرا وقل يا رب سبحانك

وفتش النفس عن ذنب جنتْ يدها وتب إليه وقل يا رب سبحانك

أنا الفقير الذي يلهو بغفلته أيقض فؤادا غوى يا رب سبحانك

فأنت أنت المرجى حال زلتنا إن لم تجبني فمن لي غير سبحانك

يا رب قلني وهبلي منك مكرمة تمحو الغشاوة والأدران سبحانك

تلك منهجية التفكر فما ثمرته

وكما بينت الآيات شروطاً و منهجية للوصول إلى حدائق التفكر في السموات والأرض ليكون مسار يوصل في النهاية إلى غاية مقصودة , فليس أي تفكر يصلح لمقصود القرآن ,إننا متعبدون بالتفكر الذي يفضي إلى الحالة الوجدانية الخالصة التي يعبر عنها من وصل بقوله: ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار.. هدفٌ ونتيجة , هذه الآية هي التي تفضي بمنهجية التأمل والتفكر إلى هدفها .فهي الضابط للبداية كي تأتي هذه النهاية , لذلك قالوا يعرف الفعل بنتيجته , والمنهج هو النظر لعظمة فاطر السموات والأرض و مكونها, فالباحثون اليوم يتفكرون بعيدا عن هذا المعنى العظيم في الجانب العلمي أو القوانين الفيزيائية والرياضية المنظمة دون أن يقودهم هذا التفكير وهذا العلم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم ,(يعلمون ظاهر من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون).وهذا ليس مقصود الآيات.

ومِـمَا زادني خوفا وذلاً     عجائب آيه وغياب فكري

وكنت إذا غفوت أحنُّ وصلا  لآيات بهـذا الكون تجـر

وكنت إذا ذكرت أرى صفاء  وأنسا بالوجود يُغذِّي سري