آخر الاخبار
نفخ البوارج في الخطاب الرسمي .. صانع المشكلات في اليمن
بقلم/ عادل الاحمدي
نشر منذ: 16 سنة و 10 أشهر و 23 يوماً
السبت 26 يناير-كانون الثاني 2008 05:26 م

مأرب برس – خاص

 كائناً من كان.. صانع الخطاب الرسمي هو صانع المشكلات في اليمن ..

 المهم أن أخطاء الخطاب تتبرمج مباشرة وبكل دقة على هيئة أخطاء في السياسات طالما كانت هذه السياسات (وبالذات الأدائية) مشتقة وفقاً لنصوص القوانين المنظمة لعمل الحكومة (من خطابات الرئيس) باعتبارها «الدقة» التي سيتم على إيقاعها «البرع»... لهذا لا مناص لنا من محاولة الإمساك بإحدى أهم مسببات الخلل العام في اليمن ألا وهو خلل الخطاب.

 متى سنقدر حق الكلمة ذلك أنها ليست صوتاً يقال في «اللقف»، إنها «مغرف» العقل وترجمان الرؤى ومرآة بعد النظر ونفاذ البصيرة فلهذا تجد الراسخين في المعرفة هم الأكثر بخلاً واقتصاداً في الكلام ذلك أنه -حسب النفري رحمه الله- إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة.. وعموماً: يهمنا في البداية تشخيص ثلاث سمات رئيسية للخطاب العام في اليمن تتفرع منها كل مآسي البلد:

 -ثمة خطاب لا تحركه رؤية استراتيجية لوظيفة الدولة وأشواق المجتمع وتضاريس اللحظة المعاشة وبعد نظر للمستقبل البعيد، لهذا فهو ارتجالي يقوم على إشعار نفسه والآخرين أن الأمر صح الصح وأن الآخرين حاقدون مرضى أصحاب نظارات سوداء مأزومون.. الخ، وتتوفر هذه المفردات بكثرة لأن غياب البعد الاستراتيجي لصانع الخطاب جعل من منابر الدولة الرسمية منابر للتنابز وردود الفعل غير المدروسة ورسائل وتلميحات لأطراف سياسية منافسة في حين يغيب الشعب لا كمخاطب (بالفتح) ولا كمخاطب (بالكسر)، وسائل الإعلام الرسمي أصبحت منبراً يطل منه المسؤول لكي يشاهده الرئيس.. وليس قناة يطل منه المحكوم لكي يسمعه الحاكم.

 الخطاب الرسمي في اليمن صنع جواً من التخوين وإلقاء التهم وتفسيق النوايا والأداءات وإلقاء تهم الخيانة العظمى في عبث باذخ باللغة ومفرداتها ماعت معه كل القيم واختلت الموازين.. وكأن التخوين من فم رئيس بلد إلى أشخاص فيه لا يوجب عليه فتح تحقيق مع «الخونة» وقيام محاكمة عدا ذلك فإن البلاد تسير في ظل خونة ومخربين ونظام متواطئ معهم..

 أن تتهم الآخرين بالكذب فهذه دعوى ينبني عليها حساب وعقاب.. ولهذا من المستحيل أن تجد في الصحافة الأمريكية -على سبيل المثال- من يستطيع اتهام الآخرين صراحة بالكذب لأن بعد هذا الاتهام «البينة أو الحد» لهذا يهربون إلى استعمال صيغ أخرى «فلان مقتصد جداً في إيراد الحقيقة».

 سنظل في الولايات المتحدة لمثالين قادمين الأول أن الرئيس الأمريكي -أي رئيس أمريكي- لديه خطاب أسبوعي عبر الإذاعة موجه للشعب الأمريكي (دافع الضرائب) يلقيه سيد البيت الأبيض بكل احترام وتقدير لشعبه العظيم من جوار المدفأة.. (في اليمن هناك خطاب منطلق من عقلية فجة تتعامل مع الشعب وكأنه بلا ذاكرة ولا تقييم وأنه مجموعة هائلة من البشر يجمعهم طبل وتفرقهم عصا).

 المثال الثاني (الأمريكي) سيقودنا مباشرة إلى الدخول في السمة العامة الثالثة للخطاب الذي يحكم اليمن ألا وهي:

 - أنه خطاب مصنوع من قبل فرد أو ثلاثة بالكثير وليس منبثقاً عن محددات صاغتها لجان تشريعية متخصصة من ذوي الخبرة والبصيرة استلهمت مضامين الدستور وترجمتها إلى مفردات خطاب بعض يتولاه رئيس الجمهورية وبعض في الإعلام وكذا الثقافة والتربية والتعليم بشكل منسجم ومتناغم ومتكامل يحقق غايات هذا الشعب (التي أودعها في دستوره) وتسهم مؤسسات متخصصة في تنزيله على هيئات الاستهلاك اليومي المرن والحصيف الذي يوجه دفة السياسات.

 لسنا دولة مؤسسات فلهذا يتفاجأ رئيس وزراء بقرارات تتعلق بصلب واجبه الدستوري كما يتفاجأ المجموع اليمني العام سلطة ومعارضة بتصنيفات من الواجب تدارسها قبل إعلانها ذلك أن الإعلان المرتجل يؤدي إلى المكابرة ومحاولة إثبات الأصوبية الرئاسية ما يؤدي بدوره إلى عناد في المعارضة وحيرة لدى الشعب.. مثلاً: كنت في صعدة في الأسبوع الأخير من مواجهات الحرب الرابعة.. كان الجنود على مشارف النقعة وكان «المتمردون» في الرمق الأخير.. فجأة يسمع الجنود مثل غيرهم أخبار الوساطة القطرية في نشرة التاسعة، ويتساءلون ما صلة الرئيس بالحوثي؟!

 تفجيرات نقم التي خلعت قلبي وباب «بلكونتي» باعتباري من قاطني حي الجوازات.. كانت أدخنتها تتصاعد، واهتزازاتها تهز البيت المسلح وفجأة يصل عبر الموبايل (من مزود أخبار رسمي) أن التفجيرات بسبب سقوط صخور على مخزن في معسكر الصواريخ!! وصل الخبر قبل وصول سيارات الإطفاء بينما المخزن المذكور -حسب الجوجل إرث- لا تطل عليه أي صخور.. بل أين التحقيق الذي أجري في ظرف نصف ساعة على التفجيرات لكي تخرج الخلاصة إلى موبايلات المشتركين قبل أن تهدأ الحرائق.

 سهل كل ما سبق يكفي أن نتذكر أن تعامل الإعلام الرسمي مع حرب صعدة منذ البداية كان سبباً في إطالة المشكلة وفي فقدان السلطة التأييد الجماهيري المطلوب.. ذلك أنها تناقضت وتخبطت في تفسير المشكلة واندفعت في البداية وفجأة سكتت، الأمر الذي حال دون أن يكون لدى الناس صورة واضحة عن حقيقة ما دار ويدور فتركوا الدولة لمصيرها وحوقلوا آسفين.. وللعلم (هذه الحيرة ليست عند الشعب فقط بل عند صانع الخطاب نفسه).

 أزمة غلاء القمح تبدو مثالاً أكثر جلاء إذ تضاربت التفسيرات الرسمية من فم الرئيس خلال أقل من نصف شهر (ساعة بسبب الغلاء العالمي، وأخرى بسبب الاحتكار والتخزين.. وهكذا).

 لقد كان شهراً مريراً شعر معه المواطن البسيط أن الرئيس في وادٍ.. والواقع في وادٍ آخر، وهكذا كان التعامل أيضاً مع أزمة محافظات الجنوب التي بدأ التعامل الإعلامي معها بحدية ثم ما لبث فخامة الرئيس أن اقترب قليلاً من الحدث وذلك بفضل لقاءات متواصلة في عدن سمحت له أن يسمع مباشرة من الناس.

 ليس مطلوباً من رئيس الجمهورية أن يكون خبيراً في قضايا الإعلام والاتصال وعلم نفس الخطاب بل يكون معه مكتب فني ينسق له هذه الأشياء (كمفردات مهنية تحقق مقاصد الدستور وبرنامج حزب حاكم).

 وتقرأ باستمرار له المزاج العام للشعب وصورة اليمن في الإعلام الخارجي وصفحات المظالم.. الخ.

 لا يوجد مكتب فني ولا عمل مؤسسي كل الأمر بيد الزميل بورجي الذي يصحب الرئيس كظله يحرر أخباره أينما ذهب ويقرأ له الصحف ويفسر له ما بين السطور فيرسم بذلك انطباعات الرئيس بأدب وتواضع جم ويقترح وينتزع الموافقة على ما اقترحه موهماً الرئيس أن هذا هو اقتراحه..

 (تلقى الرئيس برقية شكر جوابية رداً على تهنئة.. وكان في مقدمة مستقبليه محافظ المحافظة.. حضر اللقاء فلان وفلان وعبدالله البشيري أمين عام.. أجرى أمس اتصالاً هاتفياً مع.. تبادل معه وجهات النظر حول العلاقات الثنائية المتميزة بين البلدين.) صيغ تعطيك ربع الحقيقة أو خمسها وتركز على ما لا يهم وما أصبح محفوظاً لدى السادة المشاهدين أزيد من سورة الإخلاص.. في ظل استعمال باذخ للألفاظ يفقدها دلالاتها ودقتها، وعندما يفقد الخطاب الدقة تفقد السياسات والمشاريع الدقة وتنهار الثقة بشكل متواصل بين الناس والسلطة وبين الناس والإعلام.

 فلنعد إلى خطابات القمح: ماذا لو قال الرئيس لشعبه: «إنني أقدر معاناتكم وأشعر أن الغلاء فوق طاقة شريحة واسعة من أبناء الشعب.. لكن هذا الارتفاع له مسببات خارجية تبين أنها ليست كل الأسباب لكننا بصدد تحقيق حول الزيادة التي فاقت الزيادة العالمية ولن نتهاون مع من يتهاون في قوت الناس ويمسك بأمعائهم.. لكننا في الدولة لن نستطيع تطويق المتلاعبين بدون تعاون المواطنين وبلاغاتهم وحسهم اليقظ.. علماً أننا وللأسف ملتزمون باتفاقيات تحظر علينا إعادة الدعم للقمح لكننا نطمح بالمقابل إلى تشجيع زراعته داخلياً وتوسيع زراعة المحاصيل المقايضة وهو هدف غالٍ لا بأس إن تكبدنا في سبيله بعض العناء».. الخ.

 لكن لا.. ثمة فجاجة وعدم تقدير لمعاناة الناس..

 لأنه لا ملكة استراتيجية لدى صانع الخطاب في اليمن فلهذا تحضر المهاترات وتغيب القضايا.. (يكاد التعليم يختفي من خطابات الرجل الأول في الدولة إلا عندما يشير إلى الجامعات كمنجزات) تغيب قضية المياه والأمن الغذائي والهوية الحضارية للشعب والاعتداد والاعتزاز الذي يشحذ جاهزيات الناس ويجعل عجلة التنمية مثل البرق..

 المسألة كلام وتشجيع للمواطن تشعره بمسؤولية وبأنه أهل لمجابهة التحديات وتحقيق المستحيل.. وغداً أفضل من اليوم.. الخ تماماً كما يحدث في مصر.

 ولو كان ثمة ملكة حضارية لدى صانع الخطاب في اليمن لكان خطاب الرئيس بداية كل عام دراسي أهم من خطابه المعتاد عشية عيد الأضحى، بمستطاعه سنوياً تحية أبنائه الطلبة حاثاً إياهم على الإبداع والتفوق على كل شعوب الأرض داعياً إلى جيل من العباقرة في كل مجال مشدداً على أهمية دور الآباء في تشجيع أبنائهم، ملفتاً إلى أهمية دعم تعليم الفتاة مبدياً أسفه وخوفه الشديد من تداعيات التسرب من المدارس، مهدياً أثمن العرفان والتقدير لحملة المشاعل المدرسين الذين هم صناع المستقبل الحقيقيون شاكراً جهودهم العظيمة رغم ضآلة الراتب وصعوبة الحياة وكثافة الفصول.. الخ.

 عوضاً عن ذلك كله تحول رئيس الجمهورية من مشعل عام لجاهزيات المجتمع والحكومة إلى مدافع حلاّف عن إنجازات الحكومة التي لا يراها الحاقدون.. ما المانع عوضاً عن ذلك أن ينتزع اعتراف الناس بأسلوب ذكي كأن يقول لشعبه: إنه غير راض عما أنجزته الحكومات حتى الآن لأن الشعب هذا يستحق ما هو أكبر ونحن نطمح أن نحقق له ما هو أفضل.. وذلك بدلاً من صورته وهو رئيس جمهورية في موقع المحامي البائس الذي يدافع عن أداء المسئولين وتارة يرشقهم بتهم الفساد ويقول أنه داري بهم على واحد واحد..

 قال الشعب.. وقالت كل الصحف.. داري بهم؟ حاكمهم واقطع أياديهم.. فليش قالوا رئيس!! مع هذا يكرر الرئيس الخطأ وكأن الفلتر لم يقرأ تصويبات الناس ولا أوصلها للرئيس.

 مع هذا ورغم أن الرئيس ليس صانع الخطاب لكنه دائماً من يتحمل تبعاته أمام الشعب ويحصد شماتة لا يرضى بها أبداً أي مواطن غيور وتسبب الإحراج الشديد للمغتربين في الخارج، في النهاية نحب أن يكون رئيسنا حصيفاً مدركاً لماحاً يعرف جيداً صدى كلماته ويعمل لوعوده التي قطعها للناس ألف حساب.

 ذات مرة عدت إلى مجلدات خطابات فخامة الرئيس لأكتشف عجائب.. (ليحمدوا لله أن المعارضة لم تفطن إلى استغلال هذه المجلدات) مثلاً وجدت في خطاب لفخامته بحضرموت قبل 5 سنوات أنه بإذن الله سوف تصدر في يناير القادم صحيفة يومية في المكلا.. جاء يناير وتبعه ينايرات أخرى ولا جديد..

 كذلك زيارة إسبانيا التي أعلن بتكرار أنها ستكون نهاية نوفمبر الماضي ولم تحدث.. وعندما سافر ألمانيا قالوا (في سبتمبر) ضمن رحلة تشمل أسبانيا وتركيا.. ما راحش.. وهي فجوات ترسم تساؤلات لدى الشعب الذي تذهب به الظنون كل مذهب.

 من مهام المكتب الفني (غير الموجود) أن يجدول لفخامته متى يخطب وبماذا (طبعاً بالتشاور معه وبطلب منه كذلك) وأن ينقل له بأمانة أوجاع الرأي العام ومزاجاته.. وأن يفتح له أفقاً أفضل في التواصل مع أهل الرأي والقلم والمشورة لتكون العلاقة بينه وبينهم علاقة تناصح وليس تدابر وتوجس وتخوين.. والعجيب أن المقابلة الوحيدة الجريئة حول قضايا الساعة مع صحيفة محلية (هي صحيفة الوسط) أجريت و»بورجي» في الخارج!!

 ربما لو كان موجوداً لما تمت من أصله واللافت أن الرجل لم يعد من الخارج إلا وفقد أحد المناصب الخمسة أو الستة التي يشغلها وهو أهمها (سكرتير الرئيس) إلى جانب كونه سكرتيره الصحفي أيضاً وعضو اللجنة العامة عن الحديدة (ويقال بأن بقاءه الدهري مرتبط بسد الفراغ الذي تركه اعتزال حسن مكي تمثيلاً للتهائم)، ونائب رئيس تحرير سبتمبر.. الخ، المهم انتقل منصب السكرتير إلى فارس السنباني.

 و كما يقال أن هذا منصب مهم فهو بمثابة حاجب الرئيس ومنظم لقاءاته من هنا تجد دوائر المصالح حريصة على إرضاء السكرتير ألف مرة من الرئيس تماماً.

 ومع الأيام يتحول حاجب الرئيس إلى مخزن أسراره ومركز قوى ويتعاظم خطره واهتياب الناس له.. وإن لم يكن الرئيس نابهاً يحدث ما حدث نهاية العهد العباسي كما أرخ العلامة ابن خلدون الذي أكد أن نهاية دولة بني العباس كانت على يد حجابها (عبدالجبار سعد، سنان أبو لحوم، وغيرهما يطرحون نفس الطرح) راجع آخر مقابلة للشيخ سنان في «النداء» حيث قال المستقبل بيد الأولاد وعبده بورجي أما سعد فيصف بورجي بـ»رئيس الرئيس» كما في إحدى تناولاته في «الوسط» لكن بمستطاع الفلتر أن يقرأ مثل هذه المقالات للرئيس مع بهارات تفسير «دوافع شخصية لأصحابها أو مصالح فائتة أو محرض حاقد من وراء الستار يريد تنفير الرئيس من طاقمه النابه الذكي ضمن مؤامرة خسيسة تستهدف قلعه من الحكم»!!

 شخصياً أحترم الزميل بورجي كإنسان وملاحظاتي هي على أدائه الذي يحتكر فيه مهام مؤسسات فلا يتجدد ولا يتوقف ضرر نمطه الآسن الذي عفا عليه الزمن.. وكذلك اعتبر الرئيس صالح أنه من أشجع من حكموا اليمن وهو عندما تعطى له معطيات سليمة لا يتردد لحظة في أن يتخذ ما فيه خير شعبه وحكمه حسب ظني ولهذا لا يزال الرجل الأقوى في اليمن لكنه للأسف غير مثقف بما فيه الكفاية ويشفع له في ذلك أنه صعد من أفقر شرائح المجتمع وعندنا في اليمن لا يوجد تقاليد دولة ولا ميراث زمني كاف للبناء عليه..

 بورجي الآن هو من يرسي تقاليد خطاب الدولة، لهذا كثيراً ما يصنع الرئيس منجزات كبيرة دون تعميقها ثقافياً ووجدانياً الأمر الذي يهددها بالتسرب من بين الأصابع.

 وللوضوح أكثر أؤكد ما يلي:

 عندما تتراجع ثقافة الثورة تعود ثقافة الإمامة، وعندما تغيب ثقافة الوحدة تحل ثقافة التشطير.

 لا بد للفراغ من أن يملأ.. لكن للأسف يسهو صانع الخطاب في اليمن من كثير من الفراغات ويترك الثغرات ليصحو الشعب ذات يوم على لا غاية مثلى يسعى لها».. ولا قيمة يضحي من أجلها ومن أجلها يصبر أو يجوع.. يتحولون إلى وحوش ينهش بعضهم بعضاً ويطلبون أجواء الخوف والدنيا أمان ويستدعون بوادر الجوع والدنيا عوافي عندما تكبر دائرة المصالح تقل دائرة الإبداع.

 والمناصب الدهرية تجني على صاحبها مصالح دهرية هي أكبر من المنصب لذا تترابط شلل المصالح مع مرور الزمن وتتواطأ فيما بينها محكمة سد جميع المنافذ التي يمكن أن يصعد منها آخرون فيهم حيوية البذل وحداثة الإبداع.. الأمر الذي ينعكس سلباً (في مضمار الخطاب العام للدولة) على صورة اليمن في الداخل والخارج.. علماًَ أن صورة أي بلاد كثيراً ما تختزل في صورة رئيسها الذي أحياناً يورطوه بإجراء لقاء صحفي مع فتاة لبنانية تعمل في الأصل نادلة في مطعم فندق.. (كما حدث سالفاً) أو كما حدث مؤخراً حيث جعلوه شخصية 2007م، بناءاً على ترشيح موقع إلكتروني يديره اليمني عبد الناصر مجلي في أمريكا.. فقط عملوا فرقعة كبيرة لأن الموقع أمريكي وأفردوا له صدور الصفحات الأولى من الصحف الرسمية ليتمخض الجبل عن فأر!!

 شلة الصحفيين الأجانب الذين اصطادهم بورجي لتلميع اليمن والرئيس هم -باستثناء خير الله خير الله- كتاب عاديون غير مهمين والأسوأ من ذلك الإبقاء على عبد الرزاق فرفور لمجلة «أضواء اليمن» السنوية الصادرة عن وزارة الإعلام. علماً أن الوزارة لا تعتبر شريكاً في رسم الخطاب كما أن وظيفة الشاطر مدير التوجيه المعنوي إدارية أكثر منها مضمونية.. أما الوكالة فناقل حرفي لمواد الزميل بورجي وعنها تنقل المؤسسات وكذلك عبد الله الحرازي الذي يعتبر أحد فروع بورجي في الفضائية.

 وعادة ما يقود الخطاب الرسمي غير المدروس إلى الوقوع في فخ المفاجآت غير السارة، والأزمات الطارئة والافتضاح المباغت (مثال ذلك فضيحة الكهرباء النووية التي كشفها الزميل منير الماوري).

 سنوات مديدة والخطاب الرسمي يكرس أن المسيرة إلى الأمام وأن عجلة التنمية أسرع ما يكون، وأن معيشة المواطن إلى تحسن ملحوظ.. وفجأة ينشر الواقع المغاير غسيله على الطرقات والمساجد والتقارير المنظماتية لينتقل الخطاب الرسمي إلى تكريس الحديث عن استراتيجية وطنية للتخفيف من الفقر وشبكة للضمان الاجتماعي.. الخ.

 من أين جاء هذا الفقر؟ وأنت كنت تقول لي أن الأمور إلى تحسن ملحوظ؟

 وبنفس الطريقة يكرس الخطاب الرسمي حديثه عن عقود من الشفافية والمساءلة والمراقبة واستقلال القضاء والكفاءات المشهود لها.. الخ، ثم لما ينشر الواقع المغاير غسيله على هيئة تضخم وتدهور بالعملة ومشاريع متعثرة واعتمادات إضافية وقروض مضاعفة عند ذلك يتحدث الخطاب عن هيئة لمكافحة الفساد وقوانين للذمة المالية والمناقصات.. الخ.

 من أين حدث الفساد؟ وأنت كنت تقول لي أن القانون فوق الجميع على صغير وكبير والقضاء مستقل؟

 خلاصة القول: ثمة مأزق في الخطاب الرسمي أدى إلى مآزق في الأداء والسياسات وتعرى الآن على هيئة أزمات ملحة وتنازلات وتناقضات وتمترس وتمردات وإحباط عام وجاهزية مجهضة وتراكن وحيرة (مع عدم إطراح النسبية في كل تلك الأخطاء وفي مجمل ما تبعها من عواقب).

 أزمة الخطاب الرسمي وتورطه في صناعة المأزق الراهن كل ذلك أصبح أمراً معلوماً في أذهان المواطنين وتجلي التعبير عنه بصيغ عدة آخرها رسائل SMS ومقاطع البلوتوث المتهكمة وصولاً إلى آخر تعليقات الدوبلاج الساخر والموجود على أكثر من موقع على شبكة النت.

 القضية كبيرة، والمسألة خطيرة.. لا تحتمل التوظيف السياسي أو الكيد الحزبي أو الاستهداف الشخصي ذلك أن هذا الخطاب المتخبط هو الذي يصنع تخبط السياسات ويعبث بمستقبل الوطن وحاضره، من هنا لا بد من وضع المعضلة على الأرض واستقراء ملامحها وأعراضها لكي نعرف مصدر الخلل.. كلنا يقر بأن ثمة خللاً ما.. نعترف بذلك سلطة ومعارضة.. ونجاهر جميعاً بالاعتراف بالفساد دون التوغل الكافي في مظاهرة ومنابعه ودون أن نحدد نقاطاً واضحة للخلل يمكننا الإمساك بها لنحدد من ثم مساحة الوجع ومقدار الوصفة اللازمة للعلاج شأننا في ذلك شأن الطبيب الذي لن تنجح مهمته إلا بعد إقرار المريض بأنه مريض وبأن الألم في موضع كذا وكذا وبأنه لديه رغبة كاملة في التداوي وخوفاً من العطب وأنه مستعد لآلام «الإبر» ومرارة العقاقير اللازمة للشفاء.

 أما الطبيب فيلزمه الأمانة والدقة والخبرة والرفق.. ذلك أن الوضع الحالي المتمثل في صرف علاجات لا علاقة لها بالمرض من شأنه أن يورث أمراضاً جديدة يكل معها البدن وتزداد معها الحالة تعقداً وصعوبة.

 تعامل الخطاب الرسمي مع الأشقاء والأصدقاء يكتنفه نوع كبير من السهو يتمثل جُلّه في لغة الاستعلاء والمن المسبق، في خطابنا تجاه الأشقاء في مجلس التعاون مشفوعاً بالتهديد المسبق بالأذى إن لم يتعاونوا.. (فنحن الأصل والعمدة والعمق الاستراتيجي.. الخ) بالموازاة مع أسلوب التعريض والمزايدة بالنسبة لدول الطوق.. وكذا المغالطة والاستهبال بالنسبة للأصدقاء المانحين ولهذا تفوت مكاسب جمة على الشعب تلجأ الحكومة لتقديم التنازلات ترميماً للدمار الهائل الذي أحدثه سوء الخطاب.

 بالفعل «كثيراً ما نخسر أكثر قضايانا عدالةً بسبب الاستخدام الخاطئ للغة».. وتعزيزاً لذلك أستعيد النموذج الأمريكي الثالث الذي وعدت القارئ بإيراده قبل مسافة ويتعلق بمثال من أمثلة صناعة الخطاب في بلد يقوم عمله على مؤسسات فالرئيس بوش الإبن بعد 11 سبتمبر أراد أن يغزو أفغانستان واحتار كثيراً في كيفية الإعلان عن ذلك فمكث طاقمه الفني قرابة يومين يبحثون عن عبارات مناسبة لا تجعل من إعلان الغزو أمراً مستفزاً ومستهجناً لدى دول العالم (التي هي أقل قوة من أمريكا) ليهتدوا في الأخير إلى ما يلي:

 «هؤلاء الذين اعتدوا على قيم التمدن والتحضر بعدوانهم على برجي مانهاتن في 11 سبتمبر يجب تقديمهم للعدالة.. وإن لم يكن بالإمكان تقديمهم للعادلة فلا بأس من الذهاب بالعدالة إليهم»!!

 لا نريد من الخطاب العام للدولة اليمنية أن يكون مغطياً لبقاً وحاذقاً لهفوات الأداء الحكومي ولا ستاراً يغطي الفساد ويبرره.. فذلك أصلاً مستحيل فالخطاب السليم والسديد لا ينجم عنه مناخ صالح لنمو الفساد.. وإن حدث فساد هنا أو هناك يتكفل الخطاب السديد بمحاصرته ونبذه وتقليل ضرره وتأليب الكل عليه.

 والمشكلة أن صانع الخطاب في اليمن لا يفرق بين صناعة خطاب دولة وبين تقديم خطاب يخدم الحزب الحاكم.. لهذا يقع في حفرة تضخيم الذات وتجريم الآخر علماً أن مثل هكذا منطق هو يدين نفسه أصلاً: إذ لماذا أوجدت مناخاً اتسعت فيه دوائر العملاء والخونة والمأزومين.. لا بد أن شيئاً من الحيف السياسي والمعيشي يعتور أداء السلطة ما أدى إلى شيوع النقمة بين الفرقاء وتهتك جدران الولاء لدى المنافسين.. علماً أن أياً من البلدان لا تخلو من وجود أبناء أشقياء لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب ولكن هؤلاء لا يمكن أن يطلوا برؤوسهم إلا عندما يغيب الخطاب الراشد والسديد وتسود اللامبالاة الكلامية التي تخلف الكثير من الثغرات ينفذ هؤلاء من خلالها ويمسكون بزمام التأثير ليمارسوا خطاباً سلبياً بتقنيات متقدمة يصدقهم على إثرها الناس ويتشيعون لأطروحاتهم.

 خطاب المعارضة ورغم كونه متأثراً بنغمة خطاب السلطة إلا أنه الآن أقدر على التأثير وذلك بسبب رجحان كفته جراء المعاناة المعيشية للمواطنين والتي يتحمل وزرها الحزب الحاكم.. ولهذا تجد كل الأقلام المقروءة والبارعة محشودة في صحف المعارضة والقلم المؤتمري الذي يريد أن يتميز يكتب في صحف المعارضة بحيث أصبح خطاب المعارضة هو الذي يؤثر على المسؤولين ويجعلهم أقرب إلى انتظار ما سيحدث وكأن الأوضاع قاب قوسين أو أدنى من سقوط النظام.. ثمّ -وهو الأخطر- شاعت موجة نقد الرئيس كوسيلة للذيوع.. المهم تصلح علاقتك مع بورجي ثم «دقدق» الرئيس كيفما تشاء.. من ثم تصبح بطلاً عند القراء وعند الرئيس.

 وعندما لا يحدث التقارب يتبع صانع الخطاب إما شراء الذمم وإفساد القناعات أو المحاصرة والتضييق في الجانب المعيشي وعبر اللوبيات الموالية في منابر النشر.. وهذا الأسلوب أيضاً لا يؤسس لقاعدة بناء وتناصح وتصويب وطني جاد ومسئول بل «يطرطر» الحياة السياسية ويلوث المناخ الصحفي ويسمم أجواء الحرية مهما كان سقفها مرتفعاً.. فضلا عن كون هذه الظاهرة تشيع بمعية قواميس تخدش الذوق العام وتدمر معايير المسئولية والمساءلة والإثبات.. كما تهِّون في نظر الناس حدوث المخالفات فتقلب منظومة القيم رأساًَ على عقب لترتكس محددات الترقي ويسود منطق «الفهلوة والملعنة والمعراصة والزنقلة والبعسسسة» والثمن أصبحنا ندفعه نحن قبل أولادنا، في ظل لامبالاة قاتلة واستهتار مطرد باللغة وبكل ما هو عام ومشترك.

  أصبحنا مقتنعين بمتضادات يفصل بعضها عن بعض 180درجة.. التعميم هو السائد والتدليل هو النادر.. والتكذيب التلقائي والأيمان الجاهزة.. لا بد لنا من مشروع عام لإنقاذ اللغة قبل أن تغرق السفينة بمن فيها ومن عليها ولات حين مناص.

 * تدخلت هيئة التحرير بالحذف لأجزاء وفقرات من هذا الموضوع ووافق الكاتب على النشر بهذه الصورة