الشعب..الوطن ومراكز الاستقواء
بقلم/ د.سلطان الأكحلي
نشر منذ: 11 سنة و شهرين و 19 يوماً
الثلاثاء 01 أكتوبر-تشرين الأول 2013 09:13 م

هل ستعود النخب التاريخية إلى صواب رشدها؟، وهل ستفزع إلى ربها وتسأله العتق من النار،  وتعتق هذا الشعب المسترق بأغلال ولاءات الزعامة والمشيخة القبلية والمذهبية والحزبية؟، وهل ستعيد  الوطن إلى ساكنيه ومواطنيه وتقبل بانتمائها إليه؟، أم أنها ستصر على الاستكبار والعزة بالإثم، وتستمر في خلق دوامات الصراعات الكارثية؟، أو أنها تنتظر حدوث الواقعة التي ليس لها كاذبة؟، جحافل الرعية وقد نضج وعيها بالثورة الشاملة، وهي تعد لثورة من نوع آخر، تسقط جميع طوطميات الماضي والمستقبل.

وهل توصلت مراكز الاستقواء في الوطن إلى قناعات توافقية لوضع حلول نهائية لمشكلاتنا؟، أم أنها وجدت في المبادرة الخليجية، والمرحلة الانتقالية، فسحة زمنية تعيد فيها ترتيب تموضعاتها الحالية والمستقبلية، لتستأنف ثانية عبثيتها التاريخية في التحكم والتسلط على مصائر الوطن وشعبه، واستمرار الوصاية عليه، ومواصلة العمل بمعادلة المحاصصة والتقاسم في المرحلة اللاحقة؟،

فجميع المؤشرات لا تدل على نهاية وشيكة للتسلط والهيمنة، ولا بداية جادة وقريبة لقيام دولة مدنية حديثة، ولا دولة مؤسسية معاصرة، فمراكز الاستقواء التي حكمت اليمن جنوبه وشماله، ظلت إلى اليوم خاضعة وبدرجات متفاوتة العصبويات القبلية والمناطقية والمذهبية، وبين مخازن البارود في الشمال وقدح الزند في الجنوب، يتأرجح الوطن على حواف الهاوية. فالكتلة الاستقوائية القبلية (الهمدانية)، على الهضبة العليا، في الشمال، ما زالت منذ عقود تسيطر على معظم مفاتيح المشكلات ومغاليقها، وهي تحرص على الحفاظ على مكتسباتها بما تمتلك من قوة، وهي تمتلك وسائل الحفاظ على وحدة الوطن إن أرادت، كونها المتسبب الرئيس في إعاقة المشروع الحداثي لليمن، وفي حدوث الشرخ العميق في البنية الاجتماعية اليمنية، وفي ظهور النزعات الرافضة لهيمنة النظام الامتلاكي التسلطي، الذي أحال سكان الجنوب ومناطق أخرى من البلاد، إلى غرباء ومنفيين في وطنهم، وأحالت قياداتهم الاجتماعية والسياسية إلى أرقام مهملة في معادلة الشراكة الوطنية مما دفع بالسكان إلى استدعاء كل أشكال العصبويات الماضوية التي تذهب إلى فترة استقلال الشمال عن الدولة العثمانية واستقلال الجنوب عن بريطانيا فظهرت أشكال التطرف الثقافي والسياسي، التي تذهب بعضها إلى رفض القول بوحدة الانتماء العرقي والثقافي، بل ورفض مبدأ الحوار مع القوة الاستعمارية.

وحتى اليوم فمواقف جميع أطراف (الكتلة الهمدانية) السياسية منها والقبلية والمذهبية والعسكرية، لم تقدم في مؤتمر الحوار الوطني ولا من خارجه، عرضًا سياسيًّا متقدمًا وحاسمًا لسكان المنحدرات وللجنوب أولًا، ينفي مخاوفهم ومحاذيرهم، في وضع الضمانات الكافية المطمئنة بعدم تكرار ما حدث عقب الوحدة 1990 وحرب 1994.

والمطالبة هنا بتقديم مبادرة استثنائية من قبل هذه الكتلة المتعملقة لحل المشكلات الوطنية القائمة، يرتكز على أنها هي الأقوى تسليحًا ومالًا وتنظيمًا وإعلامًا وأشدها تمذهبًا وأمنعها معاقلًا للفرق الدينية المتصارعة، وهي الأكثر تأثيرًا على مجريات الحركة السياسية في البلاد، مقارنة بالأطراف الأخرى الواقعة في نطاق تحالفاتها أو خارج تلك التحالفات.

وإن بدت تموجات علاقات التحالفات السياسية داخل هذه الكتلة تتجه نحو التناقض، فإن برجماتيتها الذهنية تظل تدفع بها نحو التوافق المصلحي، إلى أن تتحقق لها الغلبة، فهي ما زالت تتحرك وفق موجهات المرجعيات الثقافية والاجتماعية والمذهبية الواحدة، وإن ظهرت بعض التغييرات في منظومة القيم الثقافية الناظمة للسلوك السياسي لهذه الكتلة المجتمعية وفي تعديلاتها القيمية بفعل عاملي الاختراق الوهابي، فالاثني عشري. فلا تزال لهذه الكتلة الأثر الكبير على الواقع السياسي في البلاد؛ كونها تمتلك رصيدًا تراكميًّا متجددًا من عناصر القوة، بما يجعلها الأقدر تكتيكًا ووسيليًّا وجيوسياسيًّا على فرض خياراتها وبدائلها السياسية.

ولعل بصمات التصالح الملكي الجمهوري وسماته الملمحية على الواقع اليمني اليوم، ما زالت حاضرة، تبرز غلبة التيار التقليدي المسند إقليميًّا على تطويق تيار الحداثة وتقزيمه وانحساره تدريجيًّا حتى بلغ أدنى مظاهر تراجعه في أواسط الثمانينيات من القرن الماضي، وافتقار تيار الحداثة لأي نوع من أشكال التكتل الوطني والسند الإقليمي والدولي، مما يجعله محدود الفاعلية والأثر.

وكما استطاعت هذه الكتلة، في الماضي تسجيل انتصاراتها على القوى الحداثية وتهميشها، تستطيع اليوم، وإلى حين، إدارة صراعاتها الطارئة. فقد نجحت في الماضي في التوصل للمصالحة الجمهورية/ الملكية في 1970، وتمكنت من نسف المشروع الحداثي للحمدي في 1977، وفي تقويض مشروع التحديث الاشتراكي الوحدوي 1990 - 1994.

 كل ذلك بالاعتماد على تحالفاتها :(الوهابية/ الإخوانية، والمشيخية/ العسكرية)، ثم تناقضت مصالح هذه الكتلة بعد ذلك فبدأ كل طرف فيها في البحث عن حلفاء أضعف يستقوي بهم على منافسيه:

- تحالف المؤتمر وما يضم من فئات مشيخية وتجارية وبيروقراطية وعسكرية والمرتبطون بالولاء الزعامي الزبوني.

- تحالف إخواني وهابي مشيخي وعسكري، والذي برز في أوائل الألفية الثالثة.

- حركة حوثية زيدية تقترب من الجعفرية نشأت منذ أوائل التسعينيات، وتصَلبَت بنيتها المذهبية والعسكرية أثناء حروب صعدة وخلال العامين الماضيين للثورة الشبابية.

وتوفرت لهذه القوى المختلفة كثير من الموارد المالية والعتادية والإعلامية، جراء علاقاتها الخارجية، فتهيأت لها أسباب الامتداد والتوسع إلى مناطق كثيرة من البلاد، لم يكُلها عهدًا بها ومنذ الوحدة. وتشكل هذه التكتلات الثلاثة، حضورًا قويًّا وفاعلًا في الساحة الوطنية والإقليمية لا يمكن تجاهله..

في المقابل هناك التيارات المدنية المشتتة (الاشتراكيون، الناصريون، البعثيون، والليبراليون)، والأغلبية المستقلة والتابعة من الشعب، وهي قوى مشتتة وعاجزة عن تشكيل تكتل مدني متين، يفرض حالة من توازن القوة، تستطيع الدفع في اتجاه التمدين، بدلًا من الدخول في تحالفات خاسرة، مع أيٍّ من تيارات التكتل (الهمداني).

ويتركز حضور هذا التيار الحداثي في مناطق (عدن، إب، وتعز، والحديدة، وأجزاء من حضرموت)، لكنها لا تستطيع تحقيق توازن القوة مع الكتلة الهمدانية المهيمنة إلا في ظل عمل تنظيمي وثوري يعمل على فرض معطيات جديدة، إذا ما أدركت مراكز القوى الفاعلة في الجنوب (أبين، الضالع، يافع، وردفان، وشبوة) بأهمية توافقها على تشكيل تحالف وطني مدني مع القوى المتطلعة للحداثة في الشمال التي سلف ذكرها حتى يتمكن مثل هذا التكتل بأن يكون في مستوى الندية.

فمن الصعب قبول أطراف الكتلة الهمدانية القوية، ذات الإسناد الإقليمي، بإقامة دولة مدنية حديثة تقوم على قواعد اتحادية والمواطنة المتساوية والشراكة السياسية وسيادة القانون، إلا بظهور قوة فاعلة ترجح هذا الخيار الاستراتيجي لعبور مأزقية التخلف.

ورغم ذلك يظل القول الصائب ما لم يتوصل الجميع إلى ضرورة الاقتناع بوقف حركية العبث النخبوي بالوطن وشعبه، المؤدي إلى التمزق، وما لم ترتفع هذه القوى إلى مستوى النضج، وتقرر الدخول في تصالح ذاتي وتاريخي مع معطيات التغيير، وتقبل بضرورة التغيير والتمدين، وبالمشاركة الندية والمتساوية للمواطنين والفئات الاجتماعية، لبناء الوطن ودولته ومجتمعه الحديث، فإن العودة الحتمية للحالة الصراعية التناحرية والاحتكام لمنطق القوة والتعصب، هو السبيل الوحيد لمقاومة الهيمنة والثورة على سلاطين الاستفراد والتسلط والوصاية، فيتحقق بذلك التمدن أو يضيع بذلك كل شيء.

وفي ذات الوقت، فإن الحراك الجنوبي وحده، لا يستطيع فرض خياراته الاستقلالية، في ظل صراع المراكز الاستقوائية، والصراع المناطقي الذي لا يزال يبسط ظلاله على مشهدية الواقع السياسي. فمكونات الحراك ما فتئت تجتر حرب البسوس وداحس والغبراء، الحاضرة على الدوام، وإن لم تظهر على السطح، تؤججها طموحات الاستحواذ على الثروة في شبوة وحضرموت.

وللخروج من هذا الانسداد التاريخي المأزقي، فإن التوافق الحقيقي على وضع مبادئ دستورية حاكمة لا تقوم على الفرض والقهر، وإنما على أسس تشاركية وتوافقية عادلة بين جميع المكونات المجتمعية، هو ما يُمثّل الحل الناجع لمشكلات اليمن، وذلك من خلال الإقرار بالآتي:

1-إن التنوع التضاريسي والاجتماعي والثقافي والمذهبي، والصراعات التاريخية الطويلة على السيطرة، وغياب آليات مؤسسية لإدارة البلاد بصورة تشاركية، لم تسمح بعملية الاندماج الاجتماعي، وتسبب ذلك في ظهور المشكلات السياسية في الماضي والحاضر، ومنها القضية الجنوبية وقضية صعدة وتصدع الدولة وانتشار الفساد والتسلط، مما يستوجب ضرورة القبول بالتنوع الاجتماعي وتلبية متطلبات التنمية بقيام نظام يتيح المشاركة السياسية والشعبية الكاملة وحل المشكلات القائمة على أساس من العدالة والإنصاف وإعادة توزيع مصادر القوة والثروة والسلطة.

2-يكون الشكل الاتحادي للدولة هو النظام السياسي والإداري الذي يلبي خصوصيات المناطق اليمنية على أن يقوم تقسيمها الإداري على أسس تراعى فيها العوامل الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وتتصف مؤسساتها بمشاركة جميع المناطق في إدارتها بصورة متساوية، وبما يضمن بناء الدولة  على أسس حيادية وحمايتها من مختلف أشكال السيطرة والنفوذ العصبوي بأشكاله السياسية والقبلية والمذهبية.

3-وضع قواعد دستورية دائمة تضمن الحقوق المواطنية، وتؤكد على عدم قابليتها للتغيير أو التعديل، وتؤمّن الفصل الكامل بين السلطات، وتمنع استحواذ الأغلبية على مفاصل القوة في البلاد، وتتحقق فيها شروط النزاهة والشفافية. وتضمن التوزيع العادل للثروة والتنمية لجميع المناطق.

4-ينبغي أن يؤسس الدستور لديمقراطية حقيقية، لا يزيفها المال والدعاية أو يغيب فيها التمثيل الفئوي لكافة المكونات الاجتماعية، وترشد عن طريق هيئات نزاهة لتقييم نزاهة وكفاءة المرشحين، تتوفر لها آليات تقييم واختيار دقيقة.

5-حيادية المؤسسات الإعلامية والتعليمية والوعظية العامة منها والخاصة؛ كونها - جميعًا - تساهم في تشكيل الثقافة والقيم والوعي لجميع المواطنين، وإلزامها - جميعًا - بالموضوعية والأمانة العلمية والمصداقية في نقل الحقائق، وعدم استخدامها أساليب التحريض أو التزييف.

6-وجوب التزام جميع المؤسسات الحزبية ومنظمات المجتمع المدني بالشفافية والعلنية والمساءلة والمحاسبة، وتدوير القيادات؛ منعًا للفساد والتآمر والتمييز والإقصاء.

7- إقامة نظام اقتصادي عادل يقوم على الشراكة المجتمعية للقطاع العام والخاص والتعاوني، يمنع الاحتكار والإهدار ويعمل على إطلاق تنمية إنسانية شاملة لاستثمار الموارد البشرية والمادية.

8- وكأساس لحل المشكلة الجنوبية ومشكلة صعدة ومشكلات إرث الظلم والقهر الاجتماعي والسياسي والمذهبي، ولتحقيق شروط المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، فإن جميع الحركات السياسية والمذهبية، مطالبة بالاعتذار على أخطائها في الماضي ونقد تجاربها، وإعلان استعدادها بدء صفحة تاريخية جديدة، وتخلي قيادات ما قبل 11 فبراير، عن قيادة مؤسساتهم الحزبية والمذهبية، كجزء من المعالجة والتسوية وكاعتذار فعلي وذي دلالة بارزة بقبول التغيير وبداية مرحلة جديدة، إضافة إلى جبر الضرر الذي لحق بالمتضررين، وتخلي جميع الأطراف عن أسلحتها المتوسطة والثقيلة وتسليمها للدولة، وإنهاء تشكيلاتها المسلحة.

وبهذا يعود الوطن لشعبه، ويترسخ انتماء أبنائه إليه، وتتحول النخب المتصارعة إلى نخب تتنافس على البناء والنهضة والتنمية.