آخر الاخبار
القلب وشراب الحب
بقلم/ عارف الدوش
نشر منذ: 11 سنة و 5 أشهر و 5 أيام
الإثنين 15 يوليو-تموز 2013 07:47 م

قبل الحديث عن القلب وشراب الحب لابد من الحديث عن تعريف الحال والمقام في علوم أهل الله ومجال التعريفات واسع ومتشعب وقد خاض فيه كثيرون.. نقتطف تعريف الإمامين «القشيري» و«السهروردي» فيقول «القشيري» الحال هو المعنى الذي يرد على القلب من غير تعمد ولا اجتلاب ولا اكتساب والأحوال مواهب والمقامات مكاسب والأحوال تأتي من غير الوجود والمقامات تحصل ببذل المجهود وصاحب المقام ممكن في مقامه وصاحب الحال مترق عن حاله ‏وتأتي الأحوال كالبروق فلا تدوم أبداً فإذا دامت فهي من أحاديث النفس والأحوال تحل بالقلب وتزول في الوقت وبالرغم من وضوح الفرق بين الحال والمقام فإنه يصعب في بعض المواقف التفريق بينها للتشابه والتداخل بينهما فقد يصبح الحال مقاماً وقد يدوم ويستمر وبخاصة في بعض الأحوال التي تقبل الدوام.

أما «السهروردي» في كتابه «عوارف المعارف» فيقول «قد كثر الاشتباه بين الحال والمقام واختلفت إشارات الشيوخ في ذلك ووجود الاشتباه لمكان تشابههما في نفسهما وتداخلهما فتراءى للبعض الشيء حالاً وتراءى للبعض مقاماً وكلا الرؤيتين صحيح لوجود تداخلهما ولا بد من ذكر ضابط يفرق بينهما على أن اللفظ والعبارة عنهما مشعر بالفرق فالحال سمي حالاً لتحوله والمقام مقاماً لثبوته واستقراره وقد يكون الشيء بعينه حالاً ثم يصير مقاماً» ‏وبعض الأحوال يصير مقاماً وبعضها لا يصير مقاماً.

والسر في ذلك أن الكسب في المقام ظهر والموهبة بطنت وفي الحال الموهبة غالبة والمواهب غير متناهية ولا تتوقف عند حد، ولا يمكن أن يتحقق المقام إلا ‏بعد حال ولذلك فإن الأحوال لا ترتبط بالكسب ولا بالطبع والمقامات أثبت وورد في كتاب «اللمع» للطوسي أن الأحوال هي ما يحل بالقلوب أو تحل به القلوب من صفاء الأذكار وقال الجنيد رحمه الله : «الحال نازلة تنزل بالقلوب فلا تدوم» وقيل: الحال هو الذكر الخفي. ‏

 وإذا كان الحال بحسب تعريف «القشيري» هو المعنى الذي يرد على القلب من غير تعمد ولا اجتلاب ولا اكتساب وبما أن الأحوال مواهب والموهبة غالبة وغير متناهية ولا تتوقف عند حد فإن لكل حالٍ شراباً ولكل شراب لذة ولكل لذة حلاوة والقلوب كيزان المحبة والمحبة حلاوتها في القلوب لا تنقضي.

يقول أبو يزيد البسطامي : إنّ لله شراباً في الدنيا أدخره في كنوز ربوبيته ليسقيه أولياءه في ميدان محبته على منابر كرامته فإذا شربوا طربوا فإذا طربوا طاشوا فإذا طاشوا عاشوا فإذا عاشوا طاروا فإذا طاروا وصلوا فإذا وصلوا اتصلوا فهم في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر”

ويقول أهل الله إنّ القلب بيت الرب فإن صار بيت الربّ فإنّ له شعاراً هو القرب ومن ذاق قربه لم يحتمل بُعده ولذلك مفاتيح هي الذكر ومجال الذكر واسع ومتعدد يبدأ بذكر اللسان والآركان قراءة القرآن والأذكار والعبادات ولا ينتهي بذكر والجوارح وذكر القلب أو بالذكر الخفي والله سبحانه وتعالى يتجلى لأهل ولايته فيحملهم على نجائب وداده فطوبى لمن كان الحق ساقيه ويا سعادة من كان الحق رَوْحه وريحانه فأنوار الحال به طوّافة وواردات الحق عليه عاكفة ولطائف السرّ لعظمة المولى راكعة ساجدة.

يقول الحق سبحانه وتعالى: «في بيوتٍ أذنَ اللهُ أنْ تُرفعَ ويُذكرَ فيها اسمُه يسبّحُ لهُ فيها بالغدوّ والآصال» فاجعل قبلتك مولاك يكن لك وليّاً واعلم أنك لن تؤمن حتى يكون هواك موافقاً للحق وتبعاً لما جاء به نبيك محمد صلى الله عليه وسلّم.. وعند أهل الله من رأى الحقّ في قلبه وشهده وعرفه استغنى به عن غيره ولسان حاله يقول «يا مولاي مذ عرفتك ما وجدت في قلبي مكاناً لسواك وما تعلمتُ الحبّ إلاّ منك فيا خيبتي إن نظرتُ إلى غيرك فما للمحبّ سوى سيده الذي استولى على قلبه فأسكره بمشاهد الغرام وأضناه بلذة الشراب القديم العتيق».

وأهل الله في سكرهم من شراب الحب أصناف فمنهم من يشرب فيسكر ومنهم من يشرب ولا يسكر ومنهم من إذا رأى الإناء سكر ومنهم من يسكر إذا ما رأى الساقي ومنهم من إناؤه عند غيره ومنهم من إناؤه في قلبه ومنهم من يشرب من إناء شيخه ومنهم من يشرب من إناء نبيه وما ألذ ذلك الشراب الذي يشربه المرء من يد الله سبحانه قال تعالى «وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا» سورة الإنسان : 21” فمن أراد ذلك الشراب الطهور فعليه أن يطهّر ذاته من أرجاس الهوى وعبادة النفس وأوحال الشرك ونظرات السّوء.

ويقول في ذلك أحد الفقراء من أهل الله: “ذقتُ شراب الحبّ كأساً كأساً، وعرفت لذة العشق أحوالاً وصنوفاً، فما وجدتُ ألذ ولا أصفى ولا أنقى ولا أحلى من شراب الكعبة، وشرابها:” قل هو الله أحد” والقصد هنا التوحيد الصافي المصفى فلا يطيب الشراب إلاّ بتوحيده سبحانه وتعالى ولا يكون توحيده إلاّ بمعرفته تعالى ولن تنال معرفته إلاّ إذا أدمنتَ شهوده سبحانه وتعالى ولن تدمن شهوده حتى يكون لك صاحباً وفي قلبك مؤانساً ولنفسك جليساً فعندها تكون من أهل عنديته قال تعالى “فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ” “ سورة فصلت : 38” وهم على بساط خصوصيته “إن المتقين في جناتٍ ونَهَر في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر” سورة القمر 45-55”

 فالمحب هيمان بشهود المحبوب يومَ يتجلّى بالحُسنِ في قلوب الموحّدين وتطالعهم أسراره التي تفيض على قلوبهم فتبدو على وجوههم نضرة اللقاء وتطرب أرواحهم لنسائم البقاء وأعجب ممن يشتاق إلى محبوبه وهو معه.. وآخر قولي اللهم أرزقنا وإياكم أنوار المحبة واسقنا وإياكم شرابها واجعلنا اللهم ممّن يتّبعون ولا يبتدعون وأكرمنا بالسير على سبيل الموافقة وأجعلنا ممّن لا يعرفون سواك في ظاهرهم وباطنهم وسرائهم وضرّائهم وفي كلّ أحوالهم وأنفاسهم.

فإن من أراد معرفة الله فليعرفه في جميع المواطن في السراء والضراء وليلجأ إليه في جميع المواقف فليس يوجد من هو أحنّ على عباده منه ولا يوجد من هو أرحم بالخلق منه ولا يوجد من هو أكرم عليهم منه.. فواعجبي ممّن يقولون: «الله أكبر» ويشهدون في قلوبهم سواه ويا عجبي ممّن يرددون دوماً «لا إله إلا الله» وهم عنه معرضون وهم له منكرون.!!