آخر الاخبار
الدكتور العسلي: وقفة للتهنئة والعتاب
بقلم/ عبدالملك طاهر المخلافي
نشر منذ: 17 سنة و 7 أشهر و 8 أيام
الأحد 13 مايو 2007 10:13 ص

مأرب برس - خاص

بدايةً لابد من الإشارة إلى أنهذه المقالة كتبت عقب استقالة الدكتور سيف العسلي من وزارة الصناعة والتجارة ..ولكن ارتأيت ضرورة أن تبقى حبيسة الأدراج وان لا ترى النور سيما بعد أن توارى حدث الاستقالة خلف ركام أحداث الزمن.. إلا أن مناسبة تكريم الدكتور العسلي من قبل جمعية الفكر المحاسبي بالقاهرة، مثلت محطة مواتية لتهنئته على ذلك التكريم ومعاتبته على قرار الاستقالة. 

هذا ولا ضير من الإشارة أيضا إلى أن الدكتور سيف كان أحد أساتذتي أثناء الدراسة بجامعة صنعاء، وهذا الإقرار مني إن هو إلا تجسيد للاتجاهات الحديثة في الكتابة التي تقتضي أن يكشفالكاتب أو الباحث مسبقا عن قناعاته إن بدا غير موضوعي أو شاب عمله بعض القصور. وبالنسبة للدكتور سيف العسلي فهو يعد من الرعيل الثاني الذي سنحت له ظروف البلاد خلال عقد الثمانينات أن يجد فرصته للتأهل على مقاعد الجامعات الأمريكية.. مما ساعده على بناء قدراته العلمية وتطوير شخصيته التي هي أصلا تمتلكخصائص القوة والديناميكية والمخاطرة والتمرد على السائد المألوف.. فاصبح قدرة قيادية وكفاءة علمية قوية في مجال الاقتصاد .. ومن ثم فقد كان قرار فخامة الرئيس على عبد الله صالح بضمه لحكومة عبد القادر باجمال قراراً رشيداً وينم عن رغبة حقيقية للإفادة من قدراته وخبراته الإدارية والاقتصادية في مرحلة تعد من أهم مراحل البناء والتنمية الوطنية.. تبدو فيها البلاد بأمس الحاجة لمثل هذه الكوادر. وبالفعل انطلق الرجل عقب تسلمه وزارة المالية بمعنوية عالية، ورؤية جديدة للارتقاء بالأداء المؤسسي للوزارة.. ألا أن الدكتور سيف أخذه – بحسب التحليلات المختلفة – نوع من الغرور والنرجسية، فصدرت منه بعض الأخطاء.. التي كان أولها من وجهة نظري الاستمرار في الكتابة الصحفية على حساب العمل وفي مواضيع حزبية وبأسلوب يفتقر للعمق ولا يليق بممكناته الفكرية و العلمية ومن موقعه كوزير مناط به مهام تنظيمية جسيمة جعلت كتاباته الكثير من الناس يمتعضون ويصابون بخيبة أمل إلى الحد الذي جعل أحد الكتاب المعروفين يصفها في مقال له (بالمقالات الهابطة والمتبذلة) متسائلا : هل كان العسلي بحاجة لمثل هذا الأسلوب للحفاظ على كرسي الوزارة ؟ لقد كان بإمكانه الحفاظ على الكرسي بوسائل أخرى.

 وعلى افتراض أن الدكتور العسلي لازمه هوس الكتابة ولم يكن قادرا على مداراته، فكنا نتطلع إلى كتاباته في مواضيع اقتصادية مهمة كمقومات ومعوقات التنمية المستدامة في بلادنا ..والآثار الإيجابية والسلبية جراء انظمام بلادنا إلى منظمة التجارة العالمية..وقضايا الاستثمار والتضخم وما شابه ذلك.. وهذا ما بدأه الدكتور مؤخراً كمقالته الأخيرة المنشورة في موقع المؤتمر نت حول إستراتيجية نجاح تجربة الإمارات العربية المتحدة. أعتقد أنه كان يتعين على الدكتور العسلي أن يتفرغ لعمله تماما وألا ينفق دقيقة واحدة من وقته في معارك جانبية لا طائل منها.. فوزارة المالية تحتاج إلى تدخلات تطويرية في كافة جوانبها فهي تمثل المتغير المستقل (المؤثر في غيره) - بحسب لغة الاقتصاديين - فيما تعتبر بقية الوزارات عوامل تابعة(متأثرة).. وما من شك أن تحسين أداءها وجودة العمل فيها سينعكس بالضرورة إيجاباً على كافة الوزارات والمصالح الحكومية الأخرى.. وهذه حقيقة إدارية معروفة. لذلك كنت اردد أن الدكتور العسلي سيمثل فرصة تطويرية للوزارة لإحداث نقلة نوعية في عملها وإدخال مفاهيم إدارية ومالية حديثة تعلمها وعلمها لطلابه في الجامعة،مثل الفعالية والكفاءة والشفافية والجودة الشاملة والإدارة الإلكترونية وبطاقة النتائج المتوازنة وثقافة الاهتمام بالعميل والتعلم التنظيمي والاتجاهات الحديثة في الموازنة كالموازنة الصفرية وموازنة البرامج والأداء وتقنيات التكلفة والعائد وغيرها.

أما الخطأ الثاني الذي ارتكبه الدكتور العسلي – من وجهة نظري والذي ربما يشعر بالندم بسببه - فقد كان قراره برفض تسلم حقيبة التجارة والصناعة وعز عليه الانتقال من حقيبة المالية إلى التجارة والصناعة مبرراً هذا الموقف بعدم انسجامه مع رئيس الوزراء الجديد د/ علي مجور وانه أصلا لم يكن قبل ذلك منسجما مع رئيس الوزراء السابق عبد القادر باجمال وان مصلحة البلاد تستدعي أن لا يتحول مجلس الوزراء إلى ( ما راثون للصراع).. وهذا في تقديري تبرير غير مقنع فيما يبدو أن السبب الحقيقي يتمثل في انتزاعه من المالية إلى وزارة أخرى ذات امتيازات محدودة .. فشق عليه الأمر أن يتحول من معطي (آمر بالصرف) إلى وزير لوزارة بسيطة يطلب مخصصاتها المالية من وزير المالية الذي كان ذات يوم موظفا من موظفيه. ولا ريب أن هذا الخطأ كان اكثر افداحة من الخطأ الأول لأن الدكتور العسلي لم يحمد الله على نعمة المنصب ولم يقدر ثقة رئيس الجمهورية على إبقائه في الطاقم الحكومي الجديد وإنما ( زبط النعمة) وقدم استقالته بعد ساعات من قرار تعيينه وهي أول حالة من نوعها في التاريخ الحكومي لدولة الوحدة .. وهو ربما التصرف الذي قد يكون اغضب رئيس الجمهورية فأصدر قرار البديل فوراً. إلا يحق لنا أن نستغرب لشخص قدم استقالته من وزارة عُين فيها ولم يتعرف عليها بعد، ولم تدلف رجله إلى ساحتها ..ربما أراد تسجيل موقف يذكره به التاريخ ولكنه لم يختر الأسلوب المناسب.. لقد كان بإمكانه أن يحقق نفس الهدف ولكن بأسلوب مغاير ..كأن يتسلم الوزارة الجديدة ويمكث فيها لأجل مسمى ثم يستغل ظرف أو موقف معين كأن يصطدم بأحد حيتان التجارة والاستيراد أو يتعلل باستشراء الفساد أو أو.... ثم يقدم استقالة مبررة ..وهنا كان ربما سيتفهم أهل الحل والعقد أمره وكذلك سيحظى بتقدير وتعاطف الشارع وسيضاف إلى قائمة الزاهدين في السلطة أو المستقيلين منها احتجاجا على وضعٍ ما كفرج بن غانم وفيصل بن شملان... اعتقد أن قرار الاستقالة قد انطلق من قاعدة مشحونة بالانفعال والتعجل وغياب الرشد إلى حد ما، لأنه مثل لغماً قويا نسف كل ما بناه الدكتور العسلي من جسور وعلاقات خلال سنوات عديدة مع النخبة السياسية.. وربما قد يخرجه ذلك القرار من دائرة النخبة السياسية والتعيينات الحكومية إلى اجل غير مسمى لاسيما إذا كان قد أثار فعلا غضب القيادة السياسية.. صحيح أن القبول بالوظيفة العامة ورفضها أو الاستقالة منها يعد حقا شخصيا للإنسان.. وصحيح أن الدكتور سيف قد تدارك الأمر وأبقى على خط رجعة أو خيط رفيع يربطه برئيس الجمهورية ويشفع له ذات يوم .. تمثل ذلك بتصريحه (...إنني سأبقى كادرا من كوادر رئيس الجمهورية...) غير أن هذه الرسالة قد لا تكون كافية لإعادته إلى دائرة الأضواء في الأجل القريب ما لم تتدخل عوامل أخرى موضوعية في هذا المضمار. وهنا أقول له ما كان أحوجنا لك يا دكتور سيف في هذه الوزارة – أي وزارة التجارة والصناعة - التي تمس أقواتنا بشكل مباشر وتتغلغل في تفاصيل حياتنا اليومية...كنا نحتاج إليك في وضع الآليات الفاعلة لضبط إيقاع الأسعار والمكاييل والأوزان ومكافحة الغش التجاري والسلع المهربة والفاسدة ومتابعة التجار وتنفيذ قانون ضريبة المبيعات الذي كنت من اكبر المتحمسين له والمدافعين عنه...كما كنا نحتاجك في هذه الوزارة المكلفة بمباشرة مفاوضات الانظمام لمنظمة التجارة العالمية، فأنت اقدر على ذلك نظرا لما تملكه من معرفة بعلوم الاقتصاد وقواعد التجارة الدولية.. ومن خبرة جيدة بنفسية المفاوض الغربي .. وتأكد أن نجمك كان سيلمع اكثر في أوساط السواد الأعظم من أبناء الشعب الذي اصبح كل همه استقرار سعر شوالة القمح وطبق البيض وعلبة الزبادي ودبة الغاز.. وبذلك كنت ستخدم نفسك النازعة دوما إلى البروز وتحقيق الذات وستفيد المواطن المسكين المهموم بلقمة عيشه وستخدم رئيس الجمهورية الذي تعتبر نفسك أحد كوادره وجنوده وذلك بتأمين الجبهة التموينية والسيطرة على الحركة السعرية مما سيساعد على امتصاص السخط الشعبي نسبياً وسحب ورقة خطيرة ظلت توظفها المعارضة وتحصل منها على شرعية للتحرك والتحدث في أوساط الناس. ولماذا يا دكتور سيف .. قبل قرار الاستقالة.. لم تستقريء التاريخ... ففي التاريخ المعاصر للجمهورية اليمنية نماذج وقيادات تاريخية وسياسية مرموقة كانت في مناصب عليا ثم وجدت أن قراراً سياسيا قد القى بها فجأة في مرتبة أدنى لكنها برغم ذلك تفهمت الأمر ونزلت عند رغبة الإرادة السياسية وانتقلت لخدمة الوطن من مواقعها الجديدة دون تذمر ..على سبيل المثال لا الحصر ،الدكتور عبد الكريم الارياني هوت به تقلبات السياسة من رئيس للوزراء إلى وزير بل ادنى من ذلك خلال حقبة الثمانينات لكن مع الأيام عاد إلى سدة رئاسة الوزراء ..كذلك المهندس عبد الله الكرشمي والدكتور حسن مكي من رئاسة وزراء إلى وزير.. كذلك الدكتور عبد الوهاب راوح من وزير للتعليم العالي إلى رئيس جامعة وقبله الدكتور ناصر العولقي من وزير إلى رئيس جامعة.. والقائمة طويلة.

طبعا من خلال متابعتي لتداعيات الاستقالة لمست جدلا كبيراً بين الأوساط الشعبية والإعلامية ما بين مؤيد ومعارض لقرار الاستقالة بل أن هناك من عدَّ الدكتور العسلي بمرتبة البطل القومي .. إلا إنني لا اتفق مع ذلك واعد نفسي من معارضي هذا التصرف واعتبره سلوكاً لا يخدم المصلحة العامة للبلد أو المصلحة الخاصة لصاحبه.. وذلك لأنه قد أخسره بلح الشام وعنب اليمن فالدكتور لم يُبق أي صلة قوية تربطه بالمعارضة وكذلك الحال ربما مع السلطة و المواطن.. فهو في نظر الأولي متهجم عليها صحفيا بكتاباته وتصريحاته لاسيما حزب الإصلاح .. كما أنه من منظور الثانية متمرد على المعايير السياسية وصاحب سابقة خطيرة في إطار العمل الحكومي.. وهو أيضا في نظر قطاع واسع من الشعب متزلف ومتهافت ولم يقدم أي شيء ملموس أثناء وجوده في المالية.. اعتقد أن بقاءه.. وهو ما لا نتمناه.. سيطول لفترة طويلة في هذا المثلث المجدب! ومن الصعب - أن لم يكن من المستحيل- العودة إلى وزارة المالية أو حتى الصناعة والتجارة، وإذا افترضنا جدلا العودة إلى الحكومة فستكون إلى وزارة متواضعة وهذا لن يتأتى إطلاقا في الأجل المنظور.. وقبل اختتام هذه السطور لابد من الاعتراف أن هذا التقييم المتواضع تم بناء على ما بدا للمتابع للشأن الوطني وربما أن هناك حسابات سياسية لم نطلع عليها.

ختاماً نتمنى للدكتور سيف كل الخير والسداد ونشد على يديه أن يسير في مشروعه الخاص الذي أعلن عنه وهو تأسيس مركز أبحاث يعنى بالدراسات المتعلقة بقضايا الإدارة الحكومية والإصلاح والتطوير الإداري، فالبلاد بأمس الحاجة لهكذا مركز بحثي حيث سيكون رافداً قويا لدعم وتقويم جهود الإصلاح والتنمية الإدارية في بلادنا. مجددا نهنيء الدكتور العسلي على هذا التكريم من قبل جمعية الفكر المحاسبي العربي ونأمل أن يجد الموقع المناسب الذي يستطيع خدمة الوطن من خلاله.

 والله من راء القصد