آخر الاخبار
الدرون.. في مهمة
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 12 سنة و 3 أشهر و 7 أيام
الأربعاء 12 سبتمبر-أيلول 2012 05:14 م

دأبت الحكومتان الأميركية واليمنية على إنكار ضربات جوية تقوم بها طائرة «الدرون» الأميركية في الأراضي اليمنية ضد عناصر «القاعدة» وعناصر أخرى مفترضة في «القاعدة» لفترة طويلة، غير أن تزايد هذه الضربات، ودقة التصويب، وكثرة استهداف العناصر المطلوبة، وانتفاء بعض المحاذير في هذا الصدد، جعلت إدارة الرئيس أوباما تعترف بتلك الضربات، ومن ثم اعترفت الحكومة اليمنية على استحياء بتلك العمليات التي قتل فيها مؤخرا أبرز المطلوبين للولايات المتحدة في اليمن مثل العولقي والقصع، بالإضافة إلى أعداد ممن يشتبه في انتمائهم لـ«القاعدة»، وأعداد أخرى من المدنيين اليمنيين.

ويشير الاعتراف بهذه الضربات الجوية إلى التغيير الذي طرأ على استراتيجية الإدارة الأميركية إزاء ملف «القاعدة» في اليمن خلال الأشهر الأخيرة. فبعد أن دأبت الإدارة لسنوات طويلة على نفي القيام بضربات «الدرون»، خشية إحراج الحكومة اليمنية من جهة وحتى لا تكسب «القاعدة» المزيد من الأنصار هناك، قدرت الإدارة الأميركية – في ما يبدو - أن المحاذير المذكورة قد انتفت أو أنها أصبحت أقل خطورة، فهذه الضربات لم تعد محرجة بقدر كبير للحكومة اليمنية بقدر ما هي حسب المنظورين الأميركي واليمني الرسمي مساعدات يقدمها «الصديق الأميركي» لطرد عناصر «القاعدة» من مدن رئيسية شكلت سيطرة «القاعدة» عليها مؤخرا إحراجا كبيرا للحكومة اليمنية، ثم إنه في ما يبدو لم تعد هذه الضربات يتم تقبلها بالحساسية ذاتها لدى القبائل اليمنية التي يظهر كذلك أن مزاجها بدأ يتغير في غير المجرى الذي تريده «القاعدة»، التي تعول على هذه القبائل بوصفها حاضنة اجتماعية أو ملاذا آمنا لمقاتليها.

وربما كان من أسباب تغير المزاج القبلي تجاه القبائل ارتفاع «فاتورة إيواء القاعدة»، واستهداف «القاعدة» لعدد كبير من الجنود اليمنيين، بالإضافة إلى أن آلافا من النازحين من أبين يعتبرون مقاتلي «أنصار الشريعة» المرتبطين بـ«القاعدة» سببا في أزمتهم الإنسانية التي لقيت تعاطفا في الأوساط المحلية، إلى الحد الذي حدا بقبائل محافظة أبين لتشكيل ما بات يعرف بـ«اللجان الشعبية» التي كان لها دور كبير في دحر عناصر «القاعدة» من كبريات المدن التي سيطرت عليها في أبين خلال فترة الاحتجاجات ضد نظام حكم الرئيس السابق. ثم إن تغيرا آخر طرأ كذلك على استراتيجية واشنطن في هذا الخصوص، يتمثل في تكثيف الضربات الجوية على العناصر المشتبه بها. فقد ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» أن عدد الضربات الأميركية لعناصر مفترضة من «القاعدة» في اليمن خلال الشهور الأخيرة فاق ما نفذ من ضربات خلال سنوات طويلة قبل أحداث الاحتجاجات الأخيرة في اليمن. ومن أسباب تكثيف الإدارة الأميركية لهذه الطلعات مؤخرا الوجود الكثيف لعناصر «القاعدة» التي استغلت الفراغ الأمني الذي حدث أثناء الاحتجاجات ضد نظام حكم الرئيس السابق، ومن الأسباب كذلك محاولة «القاعدة» في اليمن استهداف المصالح الأميركية عن طريق تفجير طائرات حسب الرواية الأميركية.

ومن ملامح تغير الاستراتيجية الأميركية في الحرب على «القاعدة» في اليمن أن إدارة أوباما قد وسعت مفهومها «لما يمكن أن يشكل خطرا إرهابيا يستدعي ضربة جوية» («واشنطن بوست» - 2012/7/3)، وهذا بالطبع يعني المزيد من الأشخاص الذين تستهدفهم طلعات «الدرون». كما أن الإدارة وسعت دائرة «الرتب المستهدفة»، بحيث أصبح الأشخاص غير القياديين أو المقاتلون العاديون، أو الزعماء القبليون الذين يشتبه في تعاطفهم مع «القاعدة»، أهدافا لـ«الدرون»، بعد أن كانت طلعاتها لا تستهدف إلا القيادات العليا في «القاعدة». كما توسعت الإدارة في ضربها لمن باتوا يعرفون بـ«مقاتلين مفترضين» في «القاعدة»، وهو الأمر الذي تقول عنه ماري أوكونيل، أستاذة القانون الدولي في جامعة نوتردام، إنه خرق للقانون الدولي تمارسه الولايات المتحدة في وقت تسعى فيه لمساعدة اليمن على التأسيس لدولة القانون («الغارديان» - 2012/4/19). كما أن ضربات «الدرون» لم تعد تكتفي خلال الشهور الأخيرة بضرب الأهداف البشرية، لكنها عمدت إلى ضرب مخازن الأسلحة، ومعسكرات تدريب، ومؤن وقوافل الإمداد. ولمزيد من تفاصيل الضربات الأميركية يراجع: « Yemen: reported US covert action 2012 ».

ويقودنا الاعتراف الأميركي اليمني بمثل هذه العمليات إلى بحث رد فعل «القاعدة» في اليمن، والكيفية التي غيرت بها استراتيجيتها لتتكيف مع التغييرات التي حدثت على الاستراتيجية الأميركية بشأن ملف «القاعدة» في اليمن. الواقع أنه قبل تكثيف استخدام «الدرون»، وقبل التسهيلات اليمنية لهذه الطلعات، كانت استراتيجية «القاعدة» (في الغالب) تقوم على استهداف المصالح الغربية في اليمن، من دون التعرض لليمنيين، سواء أكانوا عسكريين أو مدنيين، كما لم تكن استراتيجية «القاعدة» تقوم على استهداف المنشآت الحكومية اليمنية. غير أنه في العام الماضي، وبفعل تكثيف هذه الطلعات التي أصبح من الصعب إنكارها، وبروز تقارير عن تعاون أمني يمني أميركي في هذا السياق، فإن كل ذلك جعل «القاعدة» تراجع استراتيجيتها، وتتحول إلى التركيز على استهداف المصالح الاقتصادية اليمنية، مثل ضرب أنابيب النفط والتخطيط لشن هجمات على حقول الإنتاج النفطي، بالإضافة إلى الاستهداف المباشر للجنود اليمنيين، وضباط الأمن الذين قتل منهم العشرات على يد «القاعدة» خلال الشهور الماضية.

وبذلك يبدو أن الأميركيين بتكثيف استعمال «الدرون» في الحرب على «القاعدة» في اليمن مؤخرا قد حققوا هدفين استراتيجيين: الأول وهو الأهم بالنسبة للجانب الأميركي، يتمثل في القضاء على عدد من القيادات المهمة بـ«القاعدة» (العولقي في سبتمبر/ أيلول 2011، والقصع في مايو/ أيار 2012)، بالإضافة إلى قتل عدد كبير من أعضائها، ناهيك عن قتل المشتبه في انتمائه إليها. والهدف الثاني، وهو لا يقل أهمية عن الهدف الأول، تمثل في الدفع بـ«القاعدة» لكي تغير استراتيجيتها باستهداف الجنود والمصالح اليمنية، وتحويل الاهتمام عن استهداف المصالح الغربية والأميركية على وجه الخصوص، وذلك لصعوبة الوصول إليها، من جهة، ولأن «القاعدة» بدأت تعتبر الحرب على الحكومة اليمنية جزءا لا يتجزأ من الحرب على «الحلف الصليبي اليهودي»، على اعتبار أن الحكومة اليمنية أصبحت في حكم المرتد بموالاتها لـ«اليهود والصليبيين»، من جهة أخرى.

وقد بدأت استراتيجية «القاعدة» في التحول تدريجيا بالتركيز على استهداف العناصر اليمنية، حيث بدأت باستهداف عناصر الأمن السياسي، ثم استهداف عناصر الشرطة حيث تمت تصفية العشرات من الضباط في جهازي الأمن العام والسياسي خلال العام المنصرم. ومع احتدام حدة المعارك بين «القاعدة» وعناصر الجيش اليمني، بدأت «القاعدة» ترى في الجنود اليمنيين أهدافا مشروعة، وبعد انسحاب عناصر «القاعدة» من المدن الرئيسية في أبين لم تعد «القاعدة» تميز بين جندي وضابط، حيث تم تنفيذ عمليات مروعة، مثل عملية ميدان السبعين في صنعاء التي راح ضحيتها ما يزيد على المائة معظمهم من جنود الأمن المركزي عشية الاحتفال باليوم الوطني في مايو الماضي، وقبلها تم أسر وقتل أكثر من سبعين جنديا في هجوم في محافظة أبين انتقاما لمقتل القيادي في القاعدة فهد القصع، وبعدها تم قتل ما يقرب من عشرين من الأمن المركزي في عدن، بل وتوسعت «القاعدة» في استهداف أبناء القبائل الذين ساندوا الحملة العسكرية للجيش في أبين، والمثال على ذلك تفجير تجمع لتقديم العزاء لنجل شقيق زعيم اللجان الشعبية في أبين، حيث قتلت «القاعدة» في عملية انتحارية ما يزيد على الأربعين.

الولايات المتحدة غيرت وتغير استراتيجيتها في حربها على «القاعدة» في اليمن، و«القاعدة» كذلك، والخشية أن يتحول اليمن إلى وزيرستان جديدة، إن لم تكن قد تحولت بالفعل، بسبب لعبة الاستراتيجيات المتغيرة، في بلد أثقلته صداقة «الدرون»، وجهاد «القاعدة»، ولا عزاء له في الحالين.

*عن الشرق الأوسط