آخر الاخبار
ضفاف, لنشوان العثماني.. قراءة في قصيدة النثر 1- 3
بقلم/ د.عبدالمنعم الشيباني
نشر منذ: 13 سنة و 3 أشهر و 18 يوماً
الجمعة 02 سبتمبر-أيلول 2011 12:26 ص

ثار الجدل وتشعب الكلام بين النقاد والاكاديميين والشعراء انفسهم حول ما يسمَّى مجازاً –وليس تعريفاً علمياً- (قصيدة النثر)، اذ لم يتفق الاكاديميون –حتى هذه اللحظة- على هذه التسمية ولم يزل الخلافُ قائماً ومحتدماً بين انصار هذا اللون الشعري-ان صح التعبير علمياً- خلاف ومعركة بين المؤيدين للنثر كقصيدة وبين المعارضين بشدة لذلك.

ومن النقاد والمهتمين والمتخصصين من يرفض (قصيدة النثر) جملةً وتفصيلاً وينفي ذلك من اصله وينكر هذا الشكل برمته.. يقول هذا الفريق -بما معناه- ان كان هذا الشكل (نثراً) فلماذا تسمونه شعراً؟ فهناك فرقٌ بين الشعر والنثر.. وذهب المعارضون والرافضون لقصيدة النثر الى القول ان الشعر هو ارقى صور البيان وليس شعراً مالم يكن عمودياً بوزن وقافية على بحور الخليل بن احمد وقال بعضهم ليست قصيدة النثر بشعر لأنها لا تحوي خصائص الشعر كالوزن والموسيقى وهي ليست حتى بشعرٍ حديثٍ فنقبله.

وفريق آخر من الأكاديميين والعلماء والنقاد والشعراء يرون ان النص البديع يفرض نفسه بصرف النظر عن الشكل، وهذا الفريق يتسامح كثيراً مع غياب الوزن والموسيقى والايقاع ويبحث بدلاً من ذلك عن عالم الصور والافكار والرؤى الفلسفية والنبضات الانسانية والامتاع الشاعري والخيال الواسع ويبحث عن مكونات النص البديع الممتع والمقنع للقارئ والمتذوق.. وعند هذا الفريق ليس المطلوب فهم معاني القصيدة حتى وان كانت قصيدة من بحور الخليل بل المطلوب تذوقها وان يسبح القارئ في فضاءات وخيالات جديدة وان لم يفهم المعنى وهذا هو –عندهم-تأثير النص المبدع.

وقطعاً للجدل والاحتراب بين الفريقين المؤيد والمعارض لقصيدة النثر -التي لم يتم تعريفها بشكل علمي جاد حتى هذه اللحظة- لاينبغي ان يكون (الشكل) هو محل الخلاف-كمايردد الدكتور عبد العزيز المقالح دائماً-ولا ينبغي ان يكون (الشكل) هو جوهر المسألة بل يُلتَفَت الى عناصر واقانيم ابداعية وجمالية سحرية في النص تستوقف القارئ وتسحره او تعجبه وتدهشه وان لم يفهم المعنى.. النص البديع يفرض نفس ويبرر لقراءته ولا يهم هنا (الشكل) مادام النص قد حقق اقانيم الجمال والابداع والحضور الخيالي العميق.

المطلوب –اذاً- منك ياشاعر (قصيدة النثر) او غيرها ان تقنع القارئ بجمالية ما تكتب، ومع ذلك فمحتوى (قصيدة النثر) يعكس ثقافة شعرية واسعة وافكار فلسفية بعيدة المتناول، كما يعكس النص النثري ترسانةً ضخمة من اللغة وتناصاً انسانياً وحضارياً مع نصوص انسانية وحضارات كثيرة، فليس شاعر قصيدة النثر مجرد شخص يكتب (خربشات) او شخص آخر مهووس بـ (الشكل) لمجرد الشكل ومن اجل الموضة والتقليد.. تعالوا نقرأ هذا البيت لشاعر:-

حُبيِّبي وا دَوم فوق عِلبة ** ثنتين كَسَبْ ترادعينْ وماتينْ

الدَّوم المقصود به ثمر شجرة السدر (البُعار) بلغة القرية، اما (الكَسَب) فهي الماعز (انثى الكباش).. ومعنى الشطر الاول للبيت: يا حبيبي او ياحبيبتي اشبهك بـ(بعار) فوق العِلبة ومعنى الشطر الثاني احترب ماعزان ثم قتل كل منهما الأخرى.. ايها القارئ المتذوق هل ترى انسجاماً ام انفصاماً بين الشطر الأول والثاني للبيت؟

يقول الدكتور والشاعر والناقد والأكاديمي عبد الحميد الحسامي:

".... أما ما يسمى بقصيدة النثر فهو موضوع آخر يجسد ما يسميه بعض النقاد بالمرحلة الثانية من مراحل الحداثة الشعرية العربية بعد مرحلة الأربعينيات المتجسدة بحداثة الشعر الحر إذ جاءت دعوات على يد أنسي الحاج وأدونيس وغيرهما من المتعصبين لفكرة قصيدة النثر ولاشك في أن قصيدة النثر التي ظهرت في فرنسا خصوصاً وكتبت عنها سوزان برنار في كتابها قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا كانت مدعاة لأن يتسابق هؤلاء في اقتباس مقولاتها والتبشير بها على أنها آرائهم الجديدة وقد كتب الشاعر العراقي سامي مهدي كتابه (أفق الحداثة وحداثة النمط – قراءة في مجلة شعر) وجلى فيه كل اقتباسات أدونيس, وأرجعها إلى مصادرها الأساسية لدى سوزان برنار وأكد بالنصوص الواضحة والقطعية اختزال واختلاس أدونيس لهذه الآراء بمعنى أنها أي قصيدة النثر تنظيرياً وإبداعياً لم تكن نابعة من صميم الحاجة الإبداعية التي تقتضيها الذات العربية في تحولها المعاصر بل كانت مجتلبة من الآخر الغربي ونحن لا نعارض أن تكون هناك قصيدة بشكل من الأشكال لكننا نعارض إقحام أي شيء من خارج الذات ومحاولة فرضه قسراً على الذائقة العربية مدعوماً بتوجهات مراكز معينة، إننا ندعو إلى أن يترك الإبداع نهراً يشق طريقه بنفسه كما شق طريقه في الأندلس وكتب الموشحات الأندلسية لحاجة إبداعية اقتضتها التحولات الذائقة ولم تفرض من خارجها ـ إن كثيرا من النقاد يرون أن قصيدة النثر لم تتخلق في صلب التجربة الإبداعية العربية ـ وأنها تشبه أطفال الأنابيب ، وهذا هو السر الذي جعل قصيدة النثر تتعثر منذ خمسين عاماً ولم تستطع أن تقوم على ساقيها". انتهى كلام الدكتور الحسامي.

بين أيدينا نصٌ شعريٌ من ضرب القصيدة النثرية لشاعرة يمنية شابة منى نجيب محمد، شاعرة رابطة جدل الأدبية اليمنية ، وعنوان النص (بين الشقوق .. ثمة حياة) .. قرأتُ النص عشرين مرةً على الأقل أحسستُ أن الشاعرة سبقت الدكتور الحسامي في مبررات وجود القصيدة النثرية.. وبعبارة أوضح ليس النص من نوع (نصوص الأنابيب) ولا (نصوص كيكوز – نيدو تقليد)، للنص النثري المشار إليه حاجة تاريخية وضرورة اجتماعية ولهذا اجبرني أن أقول أنه نصٌ مكتمل الولادة، طبيعيُ الإرادة والإبداع، نصٌ مكافحٌ قادرٌ أن يقف بثقةِ على قدميه وهذا يدعم رأي الناقد الحسامي الذي يرى أن التطور الأدبي لا يأتي من غير ضرورة ماسةِ أو حاجةِ حقيقية تبرره وضرب لنا مثلاً بالموشحات الأندلسية التي جاءت تطوراً طبيعياً للبيئة الأندلسية.

بين الشقوق ثمة حياة لـ منى نجيب

لعلي سأتفرغ لكتابة مذكرات نملة..

تكيّفتْ ورائحة المبيدات الحشرية..

خلقتْ علاقة بينها وبين الحائط الذي تصعده كل يوم..

وسّعتْ الشِّق الذي تدخل وتخرج منه بخطواتها السريعة..

عرفتْ أين تجد الخُبز المُهمَل..

والبسكويت منتهي الصلاحية..

وعلبة عصير التفاح المثقوبة..

طوّرت قرون استشعارها لتعرف أين خبّأ الناس قوارير العسل..

وأين يجمعون علب المرطبات الفارغة..

سأكتبُ عن شجاعتها وحسها الاستكشافي الجريء ..

فلم تعد تخش أقدامهم..

سأكتبُ عن ضرب النمل الباقيين لها في صغرها..

ورفضهم اللعب معها..

وتركها وحيدةً تجوبُ أرجاءَ المطابخ..

عن بذرةِ الرمان التي حملتها وحدها ولعبتْ بها مع حائطٍ كتبوا عليه "ممنوع الاقتراب أو التصوير "..

سأكتبُ عن مراهقتها كيف كانت خاوية..

وأن رسالة الحب الوحيدة التي تسلمتها كانت من نملةٍ انتحرتْ مقلوبةً وملتفةً حول نفسها..

سأكتبُ عن محاولتها الانتحار هي أيضاً..

عن تسلقها جدران العمائر الشاهقة.. لتقفز دون أن يصيبها شيء..

سأكتبُ عن حلمها أن تتحول إلى فراشةٍ أو نحلة..

عن توبيخ والدها لها حينما تأخرتْ بالعودة مساءً..

وعن نصائح أمها لها بألاّ تعبث بيدها تحت ملابسها الداخلية..

سأكتبُ عن أول حبٍ لها وقد كان نملةً أيضاً.. ولكن من نوع آخر..

سأكتبُ عن بكائها كل مساءٍ حينما حمل آخر كسرةِ خبزٍ ورحل إلى مستعمرةٍ أخرى..

عن دموعها الكثيرة بعده.. التي أغرقتْ بيوض النمل الباقيين..

سأكتبُ عن إعلانها العصيان و حقيبتها التي حملتها على ظهرها وغادرت وحيدة إلاّ منها ..

سأكتبُ.. عن آخرِ نعلٍ دهسها ولم تعش بعدها..

قرأنا نص منى نجيب (بين الشقوق ثمة حياة) وعرفنا كيف استطاعت - عبر قصيدة النثر المبدعة - أن تسرد أو تصور قصة وتاريخ نضال المرأة المضطهدة في المجتمع، وهذا النص يضاف إلى أبرز نصوص (الادب النسوي) في العالم.

أما الفكرة العامة لقصيدة الشاعر الشاب نشوان محمد العثماني (ضفاف) - قصيدة نثرية - موضوع الدراسة– الكرامة. وبعبارة اخرى، الشاعر يكتب عالمه الجديد بمعانٍ جديدةٍ لا تشبه المعاني السائدة المألوفة العادية... الشاعر ينشئ عالمه الجديد تحت ظلال الكرامة، الكرامة مصدر المعاني الجديدة، والشاعر هو من يصنع هذه المعاني لأنه يكتب ويفكر ويتخيل وليس هناك معجزات ما دام الشاعر يكتب وما دام الأديب يفكر.

ضفاف لـ نشوان العثماني

المعاني غادرت

والمقدّس الذي يكتبني, أكتبه,

يؤرشفني مصيري لأجله:

الكرامة.

فـ «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»1

***

ثم أنني التَفِتُ يسارًا, فأجد غمامة ماطرة, وسحابة تكاد تلد, وترقصان,

وأسمع رعدًا يغني, وأرى برقًا يتسلق السماء,

وأقرأُ هذه اللوحة,

وماذا تعني؟

أتعلم؟

كانَ من الجميل أنني لا ألفت ناحية أخرى!

***

قال لي طاغور:

«حين رحل الجميع

بقينا، أنا وأنتَ، جالسين

نلعبُ بالمعنى وقصائد الألوان والفراشات

نلعبُ بحبّات الدموع

نلعبُ برموز الوهم حتّى دهمنا المساء

وألقى القبض علينا

بتهمة تسوّل المعجزات

عند ضفاف الأنهار المقدسة

بتهمة انتظار من لا يجيء أبداً,,»2

ودخلنا السجن, ودخل معنا فتيان,

وعزمنا الأربعة على أن نصطحب رفاقنا على ضفاف تلك الأنهار, المرة القادمة,

وأن نصنع مركب الانتظار,

***

وقرأتها من زمن, وكتبتُ,

وسافرت روحي, وهي تستغيث,

وهجرتني أحلامي,

ثم تركوني هنا, شتاتًا,

وأشلائي تشكوني, وتهجوني,

وحين لجأت إلى شاطئ القصيدة, ومحراب الصبر,

رأيتني أفترش سجاد الفضاء, ولم أصرخ, بل صرختُ؛

«اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وأنْبَتَتْ»3

***

رأيتني, وأنا على جانبي, يلتهمني الوجع,

وحفلتُ بي, وقاومتُ,

واحتشدتُ لأقرأ كتابًا عن المجريات,

كنت أقرأه في وجوه الناس,

وألمس شغفًا أن أنظر في أعينهم معنى الشيء الذي يكتبني, يؤرشفني: الكرامة,

***

سادتي, انتظروني عند حافة المدينة المقدسة, عند شاطئ النهرين, وانتظروني هناك عند السد العظيم,

لن يأتي, أعرف ذلك,

انتظروني وفقط,

اِنتظروني سأقوله لكم,

...

...

...

اَنتظروني,

وأتيتهم,

اقتاتوا العزيمة من مثواي الأخير,

ولا أدري ما صنعوا,

أثق بهم,

الأمنيات لو كنت معهم. سأصلي.

_________________

1من «العهد الجديد».

2من قصيدة لـ «طاغور».

3من سورة «الحج».

....

*يتبع الحلقة القادمة..

**شاعر وناقد يمني مقيم في الهند.

a.monim@gmail.com