آخر الاخبار
الدولة المدنية : دولة الأمة لا دولة الحاكم أيا كانت الهوية
بقلم/ د.فيصل الحذيفي
نشر منذ: 13 سنة و 5 أشهر و 5 أيام
الجمعة 15 يوليو-تموز 2011 08:01 م

كل دولة للأمة هي دولة مدنية أيا كانت الهوية التي تسودها، وكل دولة يسيطر عليها الحاكم سواء كان – فردا أو أقلية أو أكثرية - تسقط منها الصفة المدنية، وبالتالي فالدين أيا كان هذا الدين – إسلام، مسيحية، يهودية أو عقيدة بشرية مثل البوذية والهندوسية – لا يتعارض مع الدولة المدنية يل يعبر عن هوية هذه الدولة التي لا تنفي خصوصية مجتمعها إذا ارتضى به المواطنون.

سنسعى في هذه المقالة المتخصصة تبيان مفهوم الدولة المدنية من زاوية الفكر السياسي المؤسس للمفاهيم السياسية، وسيكون لزاما علينا « أولا : تحديد مفهوم الدولة المدينة » ولماذا سميت بهذا الاسم، ثم سنتطرق « ثانيا إلى :علاقة الدولة المدنية بالدين» لإزالة الإشكال الحاصل في التفكير الشائع لدى غالبية الناس وخاصة الملتزمين إسلاميا وتحديدا السلفيين. وهذا يقتضي أن نتناول ثالثا : « مفهوم الدولة الدينية » التي ينبري بعض طلبة العلم الشرعي - خطأ- في الدفاع عنها باعتبارها « دولة إسلامية » بينما ليست على هذا النحو الشائع. وأخيرا سنتناول علاقة « الدولة المدنية والعلمانية » في هذا الحيز المتاح .

أولا : تحديد مفهوم الدولة المدنية

نشا هذا المفهوم من مبرر نشأة الدولة ذاتها وهي مرحلة التطور التاريخي للبشرية بالانتقال من مجتمع البداوة والقبيلة إلى الدولة، وهنا لابد من توضيح ماذا تعنى المدنية التي أصبحت صفة ملازمة للدولة النموذجية التي تنشدها الأمم المتقدمة ، وكيف نفرق بين الدولة المدنية وغيرها من الدول التي لا تتصف بصفة المدنية ؟.

1- أصل مفهوم الدولة المدنية

المدينة « بكسر الدال» تعني المجتمع الحضري وقد أطلق عليه عالم الاجتماع العربي عبد الرحمن بن خلدون « العمران البشري » وهو عكس البداوة المتنقلة حيث ينعدم الاستقرار والبقاء في المكان، ومع الاستقرار بسبب الزراعة والحرف تكونت المدينة والأسواق والتجمعات الإنسانية الكبرى من كل لون، جمعت بينهم الضرورة إلى إشباع الحاجات واضطرادها، فـفي المدينة تغيب العلاقات القرابية « الصلة بالدم» أو تتلاشى، وتتغلب العلاقات القائمة على إشباع الحاجات « ففيها النجار والحداد والتارزي والمهندس والتاجر ، والمسرح، والفنون ، والعلوم... الخ». وبالتالي تجسدت هذه التجمعات المدنية بالانتقال إلى صيغة جديدة من التعايش فكانت الدولة هي المؤسسة السياسية - الاجتماعية التي تحكم هذه التجمعات في المدينة على امتدادها الجغرافي وتطورها التاريخي. فالمدينة « بكسر الدال» والمدنية « بفتح الدال» تعبير تاريخي عن تشكل مجتمع جديد بعلاقات جديدة توصل الناس في ظلهما إلى اختراع الدولة كأول صيغة سياسية بشرية يحتكمون إليها ويخضع الجميع إلى قوانينها المستمدة من موافقتهم ورضاهم.

وقد انحرفت الدولة من صفة المدنية « بفتح الدال» عندما صادرها الحكام بفعل القوة التي يملكونها لتصبح « دولة الحاكم » التي تعددت صفاته التاريخية من كونه حاكما« مستبدا، أو طغيانيا، أو ديكتاتوريا، أو عائليا، أو عسكريا، أو كهنوتيا» بينما هي في الأصل دولة كل سكان المدينة. ومع تطور الدولة واتساع رقعتها الجغرافية وكثقاتها السكانية أصبحت الدولة المدنية هي دولة كل سكانها الراغبين في العيش المشترك في ظل سيادتها على الجميع دون تمييز بمن في ذلك الحكام.

2- العناصر المكونة لأي دولة مدنية

أ- أن يكون الحاكم بشريا وليس لاهوتيا: « = الحاكم اللاهوتي هو الذي يدعي الألوهية أو أنه يستمد صلته بالسماء ليلزم الناس بتعاليمه المطلقة التي يدعي انه يتلقاها وحينئذ ليس بوسع أحدهم أن يعارض ذلك لأنه إن فعل إنما يعارض« مشيئة الله». بينما الحاكم البشري يخضع لاختيار الناس وللمحاسبة والمساءلة والعزل والتغيير، وقد جاءت خطبة أبي بكر رضي الله عنه وهو أول خليفة وعمر ثاني الخلفاء في دولة إسلامية مدنية للناس بالقول المشهور والشائع: « أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم فان أحسنت فأعينوني وان أسأت فقوموني».

ب - الدولة المدنية هي دولة جميع المواطنين والحاكم هو موظف لدى هؤلاء المواطنين، وليست دولة لفئة دون أخرى، فإذا وقعت الدولة في يد البعض « فردا أو أقلية أو أكثرية » ليسيطروا على بقية المواطنين سقطت منها صفة أن تكون دولة مدنية.

جـ - لا تكون الدولة مدنية إلا إذا كانت محايدة، فهي ليست مع البعض ضد البعض الآخر، فهي مثلا ليست مع المؤمنين« مسلمين أو يهودا أو مسيحيين » ضد الكفار، كما أنها ليست مع الكفار ضد المؤمنين من أي ملة كانت، كما أنها ليست مع المدينة ضد الريف وليست ضد القبيلة أو العكس، فهي تتعامل مع الجميع باعتبارهم شركاء في الوطن حتى وان اختلفت أديانهم ولغتهم وأعراقهم.

وهذه كانت حال الدولة الإسلامية المدنية التي تخاصم فيها الخليفة الإمام علي كرم لله وجهه مع خصمه اليهودي لدى القاضي شريح وقصصا أخرى كثيرة مماثلة، وفي عهد الدولة الإسلامية المدنية الراشدة عاش المواطنون من جميع الأديان في ظلها مع المسلمين دون تمييز وكل أصحاب ملة يظلون على ملتهم ويخضعون لنفس الدولة التي تدين بالإسلام ، وكانت الدولة الإسلامية تفقد مدنيتها كلما أصبحت الدولة في قبضة « الخليفة الحاكم » ومبتعدة عن هموم الأمة ورعاياها.

د- أن تكون التشريعات الحاكمة في الدولة محل رضا المواطنين سواء كانت هذه التشريعات ذات مرجعية دينية « إسلامية في المجتمع المسلم أو يهودية في المجتمع اليهودي أو مسيحية في المجتمع المسيحي » أو قوانين وضعية كما هو حال الدولة العلمانية المعاصرة في أصقاع العالم حيث تتعدد مرجعية التشريعات في الدولة بين « سماوية وطبيعية ووضعية » ولا توجد دولة في العالم تعتمد على مرجعية تشريعية واحدة في سن القوانين لان ذلك لا تفرضه الاعتقادات الدينية ولكن تفرضه الاحتياجات في تطور الحياة ووسائل العيش في مجالات متعددة « على سبيل المثال : التشريعات في البث الفضائي والطيران والبحار والمرور والبنوك والبيئة والاتصالات .... الخ».

كما تطور هذا المفهوم في التاريخ الحديث والمعاصر في أوروبا المسيحية من كون الدولة المدنية جاءت تعبيرا ورفضا للدولة الدينية، ومن هنا نشا الفهم الخاطئ في الثقافة الإسلامية كون الدولة المدنية هي رفض للإسلام، وهذا يستوجب توضيح مفهوم الدولة الدينية من زاوية العلاقة بالإسلام، إذ أن الدولة الدينية ليست دولة إسلامية ولا يوجد في الإسلام بتاريخه الطويل دولة دينية حيث يحتكر الحكم الكهنة والقساوسة ولا وجود لهم في الإسلام.

 

ثانيا : علاقة الدولة المدينة بالدين

كلمة الدين لا تخص دينا محددا بل تشمل كل عقائد التوحيد السماوية « الإسلام واليهودية والمسيحية» لأنها أديان سماوية ولذلك جاء النص القرآني ليعزز هذا المعنى« إن الدين عند الله الإسلام» {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }آل عمران67 «... توَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ }يوسف101 « .... مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ ..» الحج 78 . فالأديان السماوية كلها تدعو إلى عقيدة التوحيد بالله الواحد الأحد وتختلف بالشرائع والأحكام وفقا لتطور حاجات الناس ومصالحهم .

ومن اجل إيضاح العلاقة السوية بين الإسلام والدولة المدنية وهل هي تضاد للدين أم هي محايدة لا بد أن نحدد المفاهيم التالية :

1- الدين الإسلامي : شان سماوي غيبي ، بينما الدولة شان بشري عقلي ، إذا هل الدولة ركن من أركان الدين أو شرطا من شروط انتشاره أو استمراريته، فمن ينحوا هذا المنحى فليأت بالدليل ؟ هل نزل الدين مع الدولة أو كانت قرينا له؟ هل الدولة منزلة من السماء على السواء مع الدين؟ الدين شان السماء الهي غيبي يتسم بالثبوت والدولة شان بشري عقلي متغير.

إن الدولة الإسلامية وجدت فعلا بعد وفات الرسول باتفاق بشري بين جماعة المؤمنين التي كانت تجتمع حول رسول الهداية أما وأنه قد تركهم ولم يشر عليهم كيف يديرون شؤونهم الدنيوية بعده «= الدولة وشؤون الحكم والقيادة » فقد أعطى جماعة المؤمنين مساحة كبيرة من التفكير وإعمال العقل في التحاور والتشاور لاختيار « خليفة للأمة وليس خليفة للرسالة» « اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا» المائدة.

وبالتالي فان موت الرسول صل الله عليه وسلم أثار إشكالية الصراع السياسي على السلطة في سقيفة بين سعد قبل دفن الرسول، وهو إقرار أن الدولة شان بشري لا علاقة للدين به، ولم يذكر القرآن من قريب أو بعيد أي إشارة إلى « الدولة والسلطة والإدارة السياسية والنظام السياسي » وما سكت عنه الشرع إنما تركه للعقل البشري وهذه وظيفته، وقد رد الرسول صل الله عليه وسلم على جماعة المؤمنين الذين يسألونه في شؤون الدنيا الخالصة ومنها حادثة توبير النخيل بقوله: « انتم أدرى بشون دنياكم » والدولة بعد وفاته جاءت في هذا السياق باعتبارها شانا دنيويا خالصا. وما نشا في عهد الرسول بدءا من مجتمع المدينة يمكن أن نسميه « الجماعة الأمة » وهي فوق الدولة وأشمل منها،ونحن هنا نرجج ما ذهب إليه علي عبد الرازق في كتابه الموسوم بـ« الإسلام وأصول الحكم» من أن الرسول كان نبيا ورسولا وليس زعيما سياسيا وكانت أول دولة إسلامية إنما نشأت بعد وفاته ومع أول حاكم بشري توافق عليه المسلمين بالاختيار. وان كان للشيعة رأي آخر في هذا.

وهذا يقتضي دحض المقولات الشائعة – خطأ - أن « الإسلام دين ودولة » وهي مقولة فكرية بحتة برزت في وجه المستعمر للعالم الإسلامي أو في وجه الحاكم المتنكر للإسلام في ظل « الجماعة الآمة» وقد استنفر الفكر الإسلامي الإصلاحي همته ليقر تلازما بين « الدين والدولة » حتى يحرك الناس لدفع المستعمر باعتباره إنما يستهدف الدين والإنسان والوطن.

2- إن الإسلام عقيدة دينية سماوية تستهدف الفرد « بصيغة التكليف» ولا تستهدف الجماعة الناتجة عن مجموع الإفراد المؤمنين، لان التكليف شخصي « كل نفس بما كسبت رهينة » لذلك فان الإيمان بالله بكل أركانه وشعائره « الصلاة والصيام والعقوبات والحدود » لا يمكن أن تجرى بالوكالة باستثناء الحج لتعذره في حالة عدم الاستطاعة، وعلى المسلم أن يمارس شعائر الإسلام وتعاليمه وأحكامه في ظل دولة إسلامية أو بدونها، فالمسلم يمارس الإسلام عقيدة وعبادة ومعاملات أينما كان في اليابان في الصين في البرازيل، لكن إذا ما توفر عنصر الجماعة أو الأمة الإسلامية في نطاق الدولة فتكون الدولة الإسلامية تحصيل حاصل وليس شرطا لازما بين الإسلام والدولة. ومن هنا فان الربط بين تلازم الإسلام والدولة هو شعار جهادي في مقاومة الاستعمار الأوربي لبلاد المسلمين أكثر منه حكما تشريعيا أو اجتهادا فقهيا.

3- إن الشريعة الإسلامية في نطاق الدولة تتخذ طابعا قانونيا صرفا وتمثل أحد المصادر التشريعية الرئيسة لها، وهي إحكام محدودة لا تشمل كل تفاصيل الحياة التي تجد « الدولة الأمة » نفسها معنية بذلك وليس الدين.

إن التشريعات القانونية في أي دولة مهما تغير الزمان والمكان والثقافات تجد لها ثلاثة أصول « تشريع السماء ، والقانون الطبيعي ، والقوانين الوضعية».

* فالتشريع السماوي مصدره الله والغرض منه التكليف فهو يختص بالعقيدة والقيم الإسلامية والعبادات والمعاملات ويتسم بثبات الأصول ومرونة الفروع، ويمنح الإنسان فسحة كبيرة للتفكير في أشياء سكت عنها وتركها لاجتهادات البشر.

* والقانون الطبيعي مصدره الهي أيضا ولكنه خارج سياقات « التكليف » مثل العلاقات الكونية والنظام الكوني، وأهمية القانون الطبيعي انه موضع الهام البشر، فمن قانون الإبصار اهتدى الإنسان إلى اختراع العدسات والتليسكوب والكاميرات ، ومن نظام التفكير العقلي اخترع الإنسان الحاسوب ومن الطيور اخترع الإنسان الطائرات والمكوك الفضائي، ومن الأسماك اهتدى الإنسان لصنع المراكب البحرية ...الخ.

* أما القانون الوضعي فهو مصدره عقل الإنسان مع الأخذ بعين الاعتبار بالمعتقدات والقيم الاجتماعية والاحتياجات المتجددة. ويتسم بالتغير والنقض والقبول والرفض حسبما تقتضيه حاجة الإنسان وتطوره.

4- الجماعة والآمة والدولة : لابد من التفريق بين « الجماعة الأمة » كمكون ديني « والدولة الأمة» كمكون سياسي فـ« الجماعة الأمة » عابرة للحدود وهي صفة ملازمة لتشكل الأمة الإسلامية منذ عهد النبوة وما بعده باعتبارها جماعة مؤمنة لا تقبل الانحباس في حدود الدولة بل هي أمة عابرة للقارات تجسيدا لخاصية « عالمية الإسلام» في قوله تعالي:« وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» أما « الدولة الأمة » فـتـتحدد جغرافيا وسكانيا وتاريخيا وسياسيا بحدود شبه ثابتة لا تقبل التوسع إلا إذا تحولت « الدولة الأمة » إلى دولة استعمارية .

ثالثا: مفهوم الدولة الدينية

متى نسمي الدولة دولة دينية ؟ متى نطلق عليها هذا الوصف ؟ : عندما يكون « الحاكم » فيها يدعي انه الله، أو انه وكيل عن الله، أو ناطق باسمه، أو ظل الله في الأرض، وبالتالي فان مخالفته أو معارضته غير ممكنه، ولا حرية ولا حقوق إلا بحدود ما يفيض بها هذا « الحاكم الكهنوتي». 

وهذه الدولة الدينية تاريخيا لم تتحقق إلا في حالتين :

الحالة الأولى:« دولة دينية حقيقة » في ظل « الأنبياء الملوك» مثل سليمان وداود وما يشابه وضعهم في تاريخ «الأنبياء الرسل». بينما الكثير من الأنبياء والرسل جاؤوا بالدعوة ولم يكونوا حكاما بل كانوا مصدر هداية للناس وكفى.

الحالة الثانية:« دولة دينية كاذبة » حين نشأت الدولة الكنسية في أوروبا القرون الوسطى حيث كانت سلطة الكنسية هي المهيمنة على الدولة والمجتمع فكان الحكم فيها يجسد الدولة الدينية « كذبا وزورا» لأنه غير مفوض من الله لا بنبوة ولا برسالة ولكنه محض ادعاء، ولا يزال الأثر الوحيد للدولة الدينية المجسدة لهذا المنحى قائما في دولة الفاتيكان حيث سلطة البابا الدينية لكل المسيحيين في أنحاء العالم. وأخطر الانحرافات في الفكر الإسلامي هو ما سعى إليه الشيعة من إنشاء دولة دينية في الإسلام حين أصبغوا العصمة على « الإمام- الحاكم» وحصروه في البطنين، وأقروا بأن هذا الحصر والتعيين منصوص عليه بوصية من النبي، ولكن في الجانب العملي لم يتمكنوا من إنشاء دولة دينية وذلك لخصوصية استقلالية الشريعة الإسلامية عن الحاكم وعدم وجود رجال دين في الإسلام.

وبناء على هذا التعريف فهل تسمى الدولة الإسلامية دولة دينية ؟ ومتى نصف الدولة بأنها دولة إسلامية؟

يتضح جليا انه لا دولة دينية في الإسلام على امتداد تاريخيه بالرغم من أن بعض الحكام والخلفاء حاولوا أن يدعوا - طغيانا وبغيا - أنهم ظل الله في الأرض إلا أن الشريعة الإسلامية باستقلال مصدرها الإلهي كان مرد تنفيذها وتطبيق أحكامها موكول إلى الفقهاء والقضاة وليس إلى الحكام، لذلك فشلوا في أن ينشئوا دولة دنية ليكونوا كهنتها.

أما وصف الدولة بالإسلامية فيكون في الحالات التالية :

الحالة الأولى : عندما يكون معظم سكان الدولة مسلمون حتى لو كان الحكم غير إسلامي وليس للشريعة بسطا ونفوذا في قوانينها « نموذج تركيا العمانية » ونيجريا وغانا حين اعتلى الحكم فيهما حكاما مسيحيين على أغلبية مسلمة لكن ذلك لم ينزع عن الدولة صفة الإسلامية وهما دولتان عضوان في مؤتمر العالم الإسلامي. وبالمثل فقد ترأس الهند حاكما مسلما وهو العالم النووي أبو الكلام لكن ذلك لم يكن ممكنا منح الهند صفة الدولة الإسلامية أو ضمها إلى عضوية مؤتمر العالم الإسلامي، وهذا يعزز إثبات أن الدولة المدنية هي دولة المواطنين وليست دولة الحكام.

الحالة الثانية: أن يكون دين الدولة الإسلام مثل بقية الدول العربية، وأن تكون الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي أو وحيد للتشريع في هذه الدولة وبالتالي يكون الحاكم بالضرورة في هذه الحالة مسلما بسبب توفر هذا الشرط. ولا يتم ذلك إلا إذا توفرت الحالة الأولى . لكنها لا توصف بأنها دولة دينية إلا في الخطاب الإسلامي الشعبي.

رابعا : الدولة المدنية والعلمانية

إن الدولة المدنية تتطابق مع بعضها في المؤدى الوظيفي باعتبارها دولة كل المواطنين لكنها لا تتطابق من حيث الهوية فلكل دولة مدنية هوية خاصة بها ومن هذه الهويات ما يلي:

1- العلمانية : تعني فصل الدين عن السياسة، أي إنها ترفض الحكم الكهنوتي باسم السماء وتشترط أن يكون الحاكم بشريا خاضعا للاختيار والمساءلة والحساب والعزل، وتغلب التشريع الوضعي على ما عداه وتتنكر للتشريع الغيبي السماوي، وهذا التمشي كان ردا على الدولة الدنية الكنسية التي بسطت نفوذها في التاريخ الأوربي والوسيط وكانت سببا في تخلفه قرونا متتالية، وبالتالي فان العلمانية تمثل إحدى الهويات السياسية للدولة المدنية في أوروبا المعاصرة، لكن ليس كل دولة مدنية هي علمانية بالضرورة فقد تكون دولة علمانية وقد تكون إسلامية وقد تكون يهودية وقد تكون نصرانية أو بوذية أو هندوسية ..الخ، لان الدولة المدنية لا تتعارض مع الدين، وليست ضده وليست معه، إنها دولة لكل المواطنين على اختلاف أديانهم وعقائدهم وثقافاتهم...الخ وإلا لما كان أهل الذمة من غير المسلمين ضمن رعايا الدولة الإسلامية.

فالعلمانية يقدر ما تبعد الدين عن السياسة فإنها لا تبعده عن حياة الناس ومجتمعهم، فإذا ما حاربت الدين مثل علمانية تركيا فإنها تتحول من علمانية إلى ايدولوجيا علمانية، فعلمانية فرنسا وهي التي تأسست على إبعاد الحكم الكهنوتي عن الدولة وليس إبعاد الدين عن المجتمع لا تحارب الكنيسة ولا تمانع الدولة العلمانية من مزاولة الناس طقوسهم الدينية في دولة علمانية هممها الأساس أن لا يتدخل الدين في السياسة.

2- تعدد الهويات للدولة المدنية : ليس لوصف الدولة بالمدنية أي علاقة بالكفر أو الإيمان وهنا نفرق بين الدولة المدنية العلمانية كنتاج لفصل الدين عن الدولة في رفض حكم الكنيسة المنشئة للدولة الدينية، فكانت العلمانية هي رفض للحكم الكنسي الكهنوتي وليس رفضا للدين.

والدولة المدنية لا تحددها العلمانية كهوية سياسية ملازمة، فهويات الدولة قد تكون علمانية وقد تكون إسلامية وقد تكون هندوسية أو بوذية أو زرادشتية أو وثنية، إن هذه الهويات بمثابة ايدولوجية للدولة المدنية المعبرة عن خصوصية أمة من الأمم على ما عداها.

إن الدولة المدنية تقيم وزنا للخصوصية الثقافية والدينية والتاريخية للإنسان « المواطن » في هذه الدولة، أي أنها لا تخرج مواطنيها من خصوصياتهم الثقافية والدنية ولذلك نجد أن الدولة في اليابان دولة مدنية لكنها بهوية بوذية وليبرالية وعلمانية، والدولة العبرية المحتلة لفلسطين هي دولة مدنية ولكن بهوية يهودية علمانية ليبرالية، والدولة في أوروبا عموما هي دولة مدنية ولكن بهوية مسيحية ليبرالية علمانية، والدولة في الصين هي دولة مدنية بهوية بوذية اشتراكية علمانية وهي في تضاد مع الليبرالية الغربية، وقد نجد أن دولة مدنية هوينها علمانية ومجتمعها مسلم مثل تركيا. ويفترض أن تكون الدولة المدنية في المجتمع الإسلامي بهوية إسلامية ليبرالية، حتى لمن ينشد دولة الخلافة فلن تكون إلا دولة مدنية لكل المواطنين وليس دولة تخص الخليفة الحاكم.