مذكرات أستاذ جامعي.. من أبراج الخليج إلى قصور مأرب 1
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: سنتين و شهرين و 15 يوماً
الجمعة 07 أكتوبر-تشرين الأول 2022 06:27 م

زرتُ في الآونة الأخيرة كلٌ من دولة عُمان وقطر مرورًا بالرياض ومأرب ومنفذ الوديعة، ووجدتُ من المهم أن أدوّن ما شاهدتُ وما رأيتُ، للتأريخ وللأجيال، فثمة أحداث وآيات وأحوال وأهوال، ينبغي لكل ذي قلم وفكر أنْ يستلهم منها العظات والعبر سيما في الوضع اليمني، الجدير بالنظر والدراسة والتحقيق، وتحسس مواطن الخلل والنقص وفجوات الفكر والإدارة والإرادة اليمنية، وسألتزم بعون الله التجرد والنصيحة والمصداقية والإخلاص ما استطعت.

حين وصلتُ منفذ أبو سمرة في الطريق إلى الدوحة، وجدتُ المنفذ مهيبًا ومهيئًا جدًا لاستقبال المسافرين – مقارنة بمنفذ الوديعة اليمني- من مصلى وإدارات تستقبل المسافرين بكل بشرٍ وترحاب، وما أن سلّمتُ المختص الوثائق اللازمة حتى تم تأشير الجواز والعبور بسلام، وما هي إلا زهاء ساعة زمان تقريبًا أو تزيد حتى وصلت الدوحة، وما هي إلا دقائق حتى وصلت إلى وسط العاصمة الدوحة وأمامي العديد من الأبراج الشاهقة والحدائق والمتنزهات الجميلة والرائعة، وكل شيء يسير في البلد إلكترونيًا، حتى أجهزة الأمن والضبط خالية منها الطرق، إلا ما ندر، كأن تقف وقوفًا خاطئًا فتجد سيارة الأمن بجوارك، ولا تدري من أي موقع خرجت تلك السيارة، فالكاميرات والإلكترونيات تغطي كل مكان، وبالطبع سيارة الأمن ليس لاستغلالك أو سرعة تسجيل مخالفة مرورية عليك، بل لإرشادك وتوجيهك، في غاية من الأدب والاحترام، ولاحظت شبكات الطرق الواسعة جدًا والجسور المعلقة في السماء، أخذتُ في التجوال في أنحاء المدينة من الظهيرة إلى العصر، ونزلتُ بأحد الفنادق الرائعة، وحرصت على كتمان زيارتي فما أكثر الأصدقاء الذين لن يتركوني وشأني، بل ربما حرصوا على الاستضافة اليمانية المعتادة، وقد يكون في الأمر بعض الحرج، من جهتي أو من جهتهم لظروف العمل والكدّ والأجواء الحارّة جدًا.

بيد أنّ أحد أصدقاء الواتساب – غير المعرفين لديّ لا اسمَا ولا مسمىً- علم بمقدمي إلى الدوحة، فسارع وزارني إلى الفندق، لمعرفة طريقة دخولي إلى الدوحة، فأخبرته، وأنها بركات يوم عاشوراء، فقال إنها "معجزة" حقًا!!. وظلّ يذكر هذه "المعجزة" لكل من قابله، حتى أشهرني لدى كل من يعرف، فكثير من اليمنيين لم يتمكنوا من الوصول إلى الدوحة رغم كل الأسباب والحِيل.

كان الرجل خدومًا ومتفانيًا وأخبرني أنّ غدًا هو آخر يوم لي بالفندق، وعليّ النزول لدى أحد الأصدقاء لديه، ممن لا أسرة له ويعاني الوحشة. وفي اليوم التالي وهو الثلاثاء 11 محرم، وفي الظهيرة أخذني من الفندق وزرنا أحد تلك الأبراج، للسلام على بعض الزملاء القدامى، فبعضهم لأكثر من: 20-25 عاماً لم ألقهم، ثم زرنا بعض المرافق الحيوية كالأسواق وبعض المساجد ومطعم الشيباني المشتهر في الدوحة. نزلتُ لدى الأخ الشيخ أكرم، وهو في عمر أحد أبنائي، ومن حسن الطالع أنّ الله وهبه صوتّا حسنًا، وترافقنا لأكثر من شهر، في ودٍ وسلام وشجنٍ وإخاء لا يوصف، وكان يترنم بين الحين والآخر بصوت شجي حيثما حللنا وارتحلنا، وزاد من روعة الصحبة صحبة أخ عزيز آخر يدعى نصر الضالعي، وهو شخصية علمية واعدة يجيد القراءات السبع للمصحف الشريف، وله ثقافة علمية وفقهية واسعة، وجرّاني كلاهما نحو مجموعة كبيرة من أصدقائهما من أئمة المساجد اليمنيين، ولله درّ اليمانيين حيثما حلّوا وارتحلوا، فأيما بلد يحلّون فيه إلا وتجدهم هم أرباب التجارة والأسواق والحِرف والتدين والمساجد والعلم والنزاهة، وبالاستقراء التام فمعظم نشاط السوق الخليجية وازدهارها بسبب الأيدي اليمانية، رغم ظروف اليمنيين وفساد بلدهم وسوء أحواله الأمنية.

كان حديثنا ونحن وسط الأبراج الشاهقة والطرق والجسور والمدارس والجامعات والجمعيات والشركات كلما استقلّينا سيارتنا الكريمة نحو أي عزومة مباركة نتساءل متى ستتطور اليمن؟!!! . فمن قائلٍ بعد مائة عام ومن قائلٍ لن تتطور اليمن أصلاً، ما دامت بريطانيا على الخريطة، ومن قائلٍ بعد عشرين إلى ثلاثين عامًا، إذا انتهت مشكلاتها وتجاوزت محنتها وبُعث فيها رجل مخلصٌ كإبراهيم الحمدي، أو رجب الطيب أرطوغان، أو بُعث فيها رئيسةٌ كرئيسة سنغافورة الحضرمية.

أسرتنا الدوحة حقيقة برقيّ إنسانها وثقافتها واقتصادها وأسواقها ومساجدها ورفاهيتها ونظافتها وكيف استطاع الإنسان القطري أن يجعل من قطر ذات الأرض الصحراوية القاحلة أجمل وأغنى بلاد الدنيا، وأكثرها وأقواها تأثيرًا عالميًا، وكيف حوّل القرود المخربون بلاد اليمن الأرض الطيبة المباركة بشهادة ربّ الأرض والسموات، وأجمل بلاد الدنيا وأغناها على الإطلاق إلى خرابة ومزبلة، ومبالة للكلاب الضالة، ومجاعةٍ ودماءٍ وأشلاءٍ وليلٍ أسودَ حالكِ الظلام، لا مخرج منه قريب يرتجى، ولا بعيدٌ فينتظر، وكيف تحوّل ذلك الإنسان اليمني العملاق إلى إنسان تحت الصفر، مجهولٌ بلا حاضر ولا مستقبل، لولا عون الله ولطفه، ثم جبروت هذا الإنسان اليمنيوإصراره وقوة إرادته الفولاذية كما سيأتي بيانه في جزء "قصور مأرب".

زرتُ السفارة اليمنية في الدوحة، بعد عناء، فموقعها القديم هو المحفوظ على gps، ولم يتم تحديث الموقع بعد، وقابلتُ معالي السفير/ راجح بادي، وموظفي السفارة، لإنجاز بعض الوثائق الشخصية، ولاحظت أنّ معاليه لا يخلو يوم من نشاط له، لتيسير وخدمة الجالية اليمنية، في شتى الدوائر القطرية، عبر لقاءاته ومؤتمراته وزياراته، وذلك عبر متابعة صفحته على تويتر، وغادرت السفارة وفي قلبي حبٌ للجلوس مع معالي السفير بادي، لتواضعه وشخصيته العلمية وتفانيه وحسن إدارته، لولا ضيق الوقت وازدحام جدول معاليه باللقاءات، والبون الشاسع بيني كمواطن وبينه كسفير مفوّض بالدرجة السامية، يحسب كل دقيقة ولحظة.

مضت خمسة أسابيع كلمحٍ بالبصر، لم يمر علينا يوم إلا ونحن معزومون، وكان للأستاذ الدكتور عبد السلام مقبل المجيدي، حفظه الله، جهود مشكورة في الضيافة والإكرام وتيسير بعض الأعمال، فجزاه الله خيرًا. ولا أنس فضيلة الشيخ أبا ياسر العولقي الذي فتح لنا قلبه وبيته، وبين الحين والآخر يتعهدنا ويسأل عنا وعن أحوالنا، حتى أنه رآني مرةً أرتّب أغراضي فأخذ مني كيس الملابس - وغلبني بأيمانه- إلا أنْ يغسلها، وحلفَ وحلفتُ أنّ لي نحو 15 ثوبًا مكويًا، إلا أنه رفض وأبى قائلاً إنما هي ضغطة زر، وغسلها وجاءني بها مكوية، فجزاه وجزاهم الله عنا جميعًا خير الجزاء.

وفي آخر زياراتنا زرنا فضيلة الشيخ / محمد القديمي، وهو زميل دراسة قديم بباجل، بعد فراق طويل لنحو أكثر من ربع قرن، وكان ختامه مسك، وقد عمل فيه وفيّ الزمان عمله، وبدت علينا جميعًا عوامل التضاريس والتعرية. ثم قررتُ العودة إلى شرورة، والسفر مجددًا لقضاء بعض الأعمال الخاصة في مأرب، وترافقنا مع الصديق الشيخ أكرم الذي انتهز فرصة سفري نحو اليمن لزيارة زوجه ووالديه وتعز العز، في رحلة طيبة مباركة لا تُنس.

ولا يفوتني أن أسجل هنا سهولة وروعة الاجراءات التي وجدتها في منفذ أبو سمرة ومنفذ سلوى فكل الاجراءات تمت بحمد الله، ونحن نستقلّ سيارتنا دون أن ننزل، وكذلك ما لمسناه في المنفذَيْن من حسن استقبال وجمال وروعة لا تغيب عن العين والقلب.

في الحلقة القادمة – بعون الله- سأتحدث عن منفذ الوديعة اليمني ودعاء الطريق "ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون"، وأعياد مأرب السبتمبرية الرائعة والمنقطعة النظير، وقصور مأرب التي زرت بعضها لعشرة أيام في الجفينة وصحن الجن، وحديث عن العشوائيات والمشيخيات، وحديث عن الروح الجديدة التي تغزو مأرب، ولماذا لا يستطيع الاستعمار المحلي أو الخارجي دخول مأرب، ولماذا رفضتُ خوض برْكة الطين والوحل في منفذ الوديعة المشؤوم؟ وقصة البنزين، وبالله تعالى التوفيق والسداد.

والله تعالى من وراء القصد ،،،