سهولة التفكيك وصعوبة الانفصال
بقلم/ عبدالناصر المودع
نشر منذ: 6 سنوات و 10 أشهر و 12 يوماً
الأربعاء 07 فبراير-شباط 2018 07:07 م
 

في الأسبوع الماضي حقق الانفصاليون في جنوب اليمن عبر ما يسمى بالمجلس الانتقالي وبالتعاون مع بعض القوى الحليفة، نصرا عسكريا سهلا على القوات التابعة للرئيس هادي بعد معارك محدودة جرت في مدينة عدن. وقد أوحى ذلك الانتصار للكثيرين بأنه مؤشر على قرب انفصال جنوب اليمن عن الشمال، والذي دخل معه في وحدة اندماجية عام 1990.

غير أن التحليل العميق للواقع اليمني يشير إلى عكس ذلك؛ فاليمن ليس في طريقه نحو الانفصال إلى كيانين، كما يتمنى الانفصاليون، وإنما في طريقه نحو التفكك من دولة متجانسة كاملة السيادة إلى دولة مجزئة فاقدة السيادة. ففي الوقت الحالي، والمستقبل القريب على الأقل، يُـسيطر على الأراضي التابعة للجمهورية اليمنية عدد كبير من القوى المحلية والأجنبية. ففي معظم المناطق الشمالية، بما فيها العاصمة صنعاء، يسيطر الحوثيون -والذين لا تعترف أي دولة بسلطتهم- على هذا الجزء من اليمن، والذي يشتمل على أكثر من 70 % من سكانه، وفي بقية المناطق، والتي تزيد مساحتها عن 70% من مساحة هذه الدولة، يسيطر عدد كبير ومتنافر من القوى عليها. ولا تسيطر الحكومة الشرعية برئاسة هادي على أي مناطق في اليمن، بعد تفكيك ما يسمى بألوية الحماية الرئاسية التابعة لنجل الرئيس هادي عقب مواجهات عدن؛ فالقوى التي تدعي بأنها تقاتل تحت سلطة الرئيس هادي فيما يسمى المناطق المحررة تتبع فعليا لعدد من الأحزاب السياسية والجهوية، وليس للرئيس من سلطة فعلية عليها.

إلى جانب ذلك تفتقد الدولة اليمنية للموارد المالية الضرورية التي تمكن القوى المسيطرة على الأرض من القيام بوظائف الدولة في حدودها الدنيا، من قبيل صرف مرتبات الموظفين، وتقديم الخدمات الأساسية، فجميع القوى المتصارعة تعتمد في وجودها على الدعم السياسي والمالي الآتي من الدول الخارجية (التحالف العربي – إيران).

 والخلاصة من ذلك تؤكد أنه لم يعد في اليمن حكومة مركزية ذات سيادة حقيقية على أراضيها؛ فالعالم الخارجي هو المتحكم بقرارات القوى المتصارعة، وبشؤون البلد ومصيره. وهذا الوضع يشير إلى أن اليمن أصبح دولة فاشلة مكتملة الأركان.

وضمن هذا الوضع تبرز الحركة الانفصالية في الجنوب كأحد مظاهر هشاشة الدولة وأحد أسبابها، ومن ثم؛ فإن حدوث الانفصال في هذا الوضع أمر شبه مستحيل كون الانفصال يتطلب ظروف سياسية/قانونية مختلفة تماما عن الوضع الحالي لليمن.

فالانفصال الحقيقي، والذي يتوهم الانفصاليون تحقيقه، يتمثل في استعادة الدولة الجنوبية لوضعها القانوني والسياسي الذي كان عليه قبل تحقيق الوحدة عام 1990 وهذا الوضع لا يمكن تخيل حدوثه لا في الوقت الحالي ولا في المستقبل القريب للأسباب التالية:

المحافظات الجنوبية وفقا للقانون الدولي هي جزء من الجمهورية اليمنية منذ تحقيق الوحدة، ومن ثم فإنها أصبحت محكومة ببنود دستور هذه الدولة، استنادا إلى مبدأ السيادة الذي يقوم عليه النظام الدولي في العصر الحديث. وبما أن الدستور اليمني النافذ يُـجرم المساس بوحدة الدولة وتقسيمها فإن أي انفصال رسمي وقانوني للمحافظات الجنوبية يتطلب أولا تغيير هذا الدستور، أو تعديله بنص صريح يسمح للمحافظات الجنوبية بالانفصال، كما حدث في السودان عام 2005 حينما تم إقرار دستور جديد سمح للجنوبيين بالاستفتاء على خيار الاستقلال أو البقاء ضمن الدولة السودانية. وبدون هذا التعديل لا يستطيع لا الرئيس ولا البرلمان، ولا أي جهة السماح للجنوبيين بالاستفتاء على تقرير المصير، أو التفاوض مع أي طرف، يدعي تمثيل الجنوب، على الانفصال، ويعتبر هذا العمل في حال الإقدام عليه جريمة جسيمة يعاقب عليها وفق نصوص الدستور النافذ.

وبالنظر إلى الوضع المهترئ للدولة اليمنية؛ فإن من غير المتصور أن يتم تعديل الدستور النافذ أو تغييره بأخر، كون هذا الأمر يتطلب مرحلة من الاستقرار وعودة السيطرة للحكومة المركزية على كل أو معظم المناطق وتحديدا العاصمة صنعاء، كي يتم الاستفتاء على التعديل أو تغيير الدستور، إضافة إلى أن من غير المتوقع أن يقبل غالبية اليمنيين ببند يسمح بتقسيم الدولة.

ولكون الأمر على ما ذكرنا فإن المشروع الانفصالي في الجنوب يبقى عملا غير شرعي بموجب القواعد القانونية والدستورية اليمنية، ومخالفا للقانون الدولي الذي يمنع الانفصال من جانب واحد، ويتناقض مع جميع القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، والتي تعتبر قواعد قانونية ملزمة وفق القانون الدولي، وهي القرارات التي أكدت بشكل واضح وصريح على وحدة اليمن وسلامة أراضيه.

ووفقا لذلك؛ فإن أي فعل انفصالي قد يقوم به أي طرف جنوبي (استفتاء، إعلان حكومة في الجنوب) لن يكون له أي قيمة قانونية حتى وإن استطاع أن يرسخ وجوده الفعلي في المناطق الجنوبية وتمكن من الحصول على دعم ورعاية واعتراف من هذه الدولة أو تلك. فأي سلطة شرعية يمنية لها الحق القانوني بأن تتخذ جميع الإجراءات، بما فيه العمل العسكري، لإلغاء الانفصال، كما حدث في العراق مؤخرا، وفقا لمبدأ السيادة.

نص قرار مجلس الأمن الدولي رقم (2140) الصادر بتاريخ27 شباط/فبراير 2014 تحت الفصل السابع على فرض عقوبات على كل طرف يعرقل التسوية السياسية في اليمن، ووفقا لهذا القرار؛ فإن أي فعل انفصالي رسمي في الجنوب سيضع من قاموا به ضمن قائمة المشمولين بالعقوبات الواردة في هذا القرار، وهذا وغيره من القرارات الأممية الخاصة باليمن تساهم في تعطيل أي فعل انفصالي، أو دعمه من أي دولة.

يتطلب الانفصال الفعلي لبعض الأقاليم، والتي لا تملك شرعية قانونية كما هو الحال في جنوب اليمن، وجود قوة واحدة تسيطر على هذا الإقليم أو المناطق الرئيسية فيه على الأقل، تفرض أمرا واقعا تجبر العالم على التعامل معه. وبالنظر إلى واقع الجنوب، فلا وجود لهذه القوة لا الآن ولا في المستقبل المنظور؛ فالجنوب، لمن يعرف طبيعته الاجتماعية والسياسية، كيان هش لا يمتلك هوية سياسية جامعة. ويرجع سبب ذلك إلى ضعف فكرة الدولة المركزية لدى سكانه، حيث أنهم لم يعيشوا تحت سلطة مركزية جنوبية واحدة خلال التاريخ المعروف إلا في مرحلة يتيمة وقصيرة لم تتجاوز 23 عاما (تشرين الثاني/نوفمبر 1967 حتى ايار/مايو 1990) وهي الفترة التي حكمت فيها الجبهة القومية/الحزب الاشتراكي الجنوب بنظام شمولي صارم، وشهدت صراعات سياسية عنيفة بين مكونات تلك السلطة كانت الخلافات الجهوية أحد محركاتها.

وقصر عمر تلك الدولة لم ترسخ الهوية السياسية الواحدة بل أن الصراعات التي شهدتها عمقت من الانقسامات الجهوية وأضعفت الهوية السياسية الهشة، كما حدث في كانون الثاني/يناير 1986. وغياب الهوية السياسية الجامعة يمنع الجنوبيين من الاتفاق على زعامة وكيان سياسي واحد يستطيعون من خلاله السيطرة على كل مناطق الجنوب وخلق واقع انفصالي على الأرض كما هو حال الكيانات الانفصالية التي فرضت الأمر الواقع مثل جمهورية أرض الصومال.

قد يتم تجاوز المشكلة القانونية وغياب السلطة الواحدة في الجنوب من خلال قيام دولة قوية على مستوى العالم أو الإقليم برعاية الكيان الانفصالي، كما هو حاصل في رعاية تركيا لما يسمى بجهورية شمال قبرص، ورعاية روسيا لجمهوريتي ابخازيا وأوسيتيا الجنوبية في القوقاز، إلا أن الواقع في جنوب اليمن لا يشير إلى حدوث هذا النموذج؛ فالدولة المؤهلة والوحيدة لرعاية دولة انفصالية في الجنوب هي المملكة العربية السعودية، وهذه الدولة ليس من مصلحتها القيام بهذا الأمر كونه يتناقض ومصالحها وأمنها القومي؛ فرعاية من هذا النوع سوف تخلق للسعودية مشاكل لا حصر لها؛ فقيام دولة انفصالية في الجنوب سيرسخ الفوضى وعدم الاستقرار في اليمن ككل، وهو الأمر الذي يعني بأن السعودية ستُغرق نفسها في المستنقع اليمني ولن تخرج منه، خاصة وأنها أمام العالم والشعب اليمني هي المسئولة عن كل المشاكل السياسية والكوارث الإنسانية التي ستسفر عن استمرار الحرب والفوضى في اليمن، وعلى هذا الأساس فإن من غير المتوقع أن تقوم السعودية برعاية الانفصال في الجنوب وتحمل العبء الأمني والسياسي والاقتصادي والقانوني والأخلاقي لمثل هكذا عمل.

أما الإمارات العربية المتحدة فإنها لا تستطيع لأسباب سياسية واقتصادية رعاية دولة انفصالية في الجنوب؛ فهذه الرعاية ستصطدم في نهاية المطاف بالمصالح الإستراتيجية للسعودية، ولا يمكن للإمارات أن تتصادم مع السعودية في اليمن، فهي مثلها مثل أكثر دول العالم تدرك أن اليمن جزء من مناطق النفوذ السعودية وضمن الحزام الأمني الخاص بها، وهو ما يحتم عليها الامتناع عن التصادم مع السعودية ومنافستها في هذه المنطقة الحساسة. إلى جانب ذلك؛ فإن الرعاية الإماراتية لدولة انفصالية في اليمن سيحملها أعباء مالية ضخمة ومسؤولية قانونية وأخلاقية يصعب تصورها.

لن يمر وقت طويل قبل أن تدرك السعودية أن المشروع الانفصالي كان العائق الرئيسي أمام تحقيقها للهدف الذي دخلت الحرب من أجله في اليمن؛ فهي دخلت الحرب لإنهاء الوجود الإيراني في اليمن عبر إضعاف أو إنهاء الحركة الحوثية، والانفصاليون الجنوبيون حولوا الحرب عن أهدافها، حيث وجهوا جزءا كبيرا من الموارد والاهتمام نحو الجنوب، وقاموا باستغلال التدخل السعودي من أجل تعزيز مشروعهم، وعملوا بكل جهدهم من أجل إطالة الحرب لترسيخ حلمهم بالانفصال. وهم في ذلك يتناغمون مع الحوثيين وإيران التي كانت الدولة الأولى في المنطقة والعالم التي رعت الحركة الانفصالية.

فإيران خططت ومنذ فترة طويلة لخلق دولة هشة في اليمن عموديها الرئيسيين هما الحركة الحوثية في الشمال والانفصاليون في الجنوب؛ فلم يكن من باب الصدفة أن تكون الضاحية الجنوبية لبيروت منذ 2009 مركزا سياسيا وإعلاميا للحركة الانفصالية الجنوبية، في الوقت الذي كانت فيه مركزا أيضا للحركة الحوثية، واللتان تظهران وكأنهما حركتان متناقضتان. وهدف إيران من كل ذلك كان ولا يزال يتمثل في خلق دولة هشة في اليمن تتمكن من تحويلها إلى مستنقع لاستنزاف للسعودية ودول الخليج الأخرى.

ووفقا لذلك؛ فإن من المتوقع أن تسعى السعودية إلى خلق نظام سياسي بديل لنظام الرئيس هادي الفاشل، وهذا النظام ستكون قيادته شمالية وقاعدته الأساسية سكان المناطق الشمالية، والذين هم عصب الدولة اليمنية (85 في المئة من سكانها) ولن يكتب لهذا النظام النجاح ما لم يحمل مشروع الدولة اليمنية الواحدة ويحارب القوى الانفصالية والحركة الحوثية وغيرها من القوى الجهوية والحزبية في وقت واحد.

المشروع الانفصالي، يشبه المشروع الحوثي فكل منهما يحمل صفات مشاريع الفوضى، فلا الحوثيون سيحكمون اليمن ولا الانفصاليون سيقيمون دولة في الجنوب لكنهما يستطيعان المساهمة في تحلل الدولة اليمنية ومنــعها من العــودة إلى الحالة الطبيعية، والتي لن تقوم إلا على أنقاض المشروع الانفصالي والحوثي.