سعيد ثابت: جمعة الكرامة أنهت (صالح) سياسيًا
بقلم/ متابعات
نشر منذ: 13 سنة و 5 أشهر و 24 يوماً
الإثنين 27 يونيو-حزيران 2011 08:04 م
 
 

مأرب برس يعيد نشر الحوار الذي أجرته أسبوعية الناس الأهلية.

ـ من الواضح أن الثورة انتقلت منذ جمعة حادث مسجد الرئاسة إلى مربع آخر.. أولا ما قراءتك لما حدث في جامع الرئاسة؟

من المهم أن نقرأ مسار الثورة الشعبية السلمية حتى نستطيع استيعاب الأحداث التي وقعت في أكنافها.. في اعتقادي أن مقدمات الثورة الشعبية تبلورت في الانتخابات الرئاسية عام 2006، ويعد الأستاذ الفقيد المهندس فيصل بن شملان هو رائد التغيير السلمي، وهذه المرحلة الأولى التي اتسمت بالمعركة السياسية القوية انتهت مع المرحلة الثانية باندلاع الثورة في فبراير الماضي وجاءت على إيقاع الثورتين التونسية والمصرية، واستمرت حتى جمعة الكرامة، والمرحلة الثالثة بدأت مع جمعة الكرامة وحتى مذبحة وإحراق المعتصمين في ساحة التغيير بمدينة تعز، والمرحلة الرابعة بدأت من استهداف جامع النهدين بدار الرئاسة) ورحيل صالح وحتى الآن.

لكل مرحلة سماتها وخصائصها التي حملتها معها، ولعل أبرز سمة للمرحلة الأولى كان (تبهيت) الشرعية الزائفة للنظام التي اكتسبها بفعل تزييف نتائج الانتخابات الرئاسية، ودخول النظام بفعل ذلك في نفق طويل ومظلم من الأزمات السياسية والاقتصادية وصلت إلى ذروتها في اتفاق فبراير 2009.

أما المرحلة الثانية فقد اتسمت بكسر حاجز الخوف من نظام الحكم المختنق بأزماته، والمتباهي بسطوة القوة التي امتلكها وراهن عليها في تعامله مع المعارضة السياسية الممثلة في أحزاب اللقاء المشترك، ودفعته لأن يرفض كل دعوات الحوار للخروج من الأزمة التي وضع نفسه والوطن برمته على فوهتها، وعملية كسر حاجز الخوف مرت بمستويين: الأول: على صعيد النخبة السياسية والكوادر الحزبية وهذه تمت أبان الحملة الانتخابية الرئاسية في المرحلة الأولى، والثاني على صعيد القاعدة الجماهيرية العامة، وهذه تعاظمت مع اتساع حركة الاعتصامات والمسيرات الاحتجاجية التي شهدتها المحافظات على وقع نجاح الثورة التونسية والمصرية اللتين ساعدتها على اختزال الزمن في تسريع عملية كسر كل الحواجز النفسية والمخاوف تجاه النظام، ولذلك سارع النظام إلى تقديم تنازلات تكتيكية وتعهدات لفظية حملت مضامين عدم التوريث والتمديد وغيرها وهي تعهدات لمطالب تجاوزتها حركة الجماهير التي تتسم عادة بالبطء في الاستجابة لأي فعل ثوري لكنها عندما تستجيب فإنها تسبق كل النخب والأحزاب السياسية.. وعندما تتهاوى كل (التابوهات السياسية) في المجتمع فإن الحركة الثورية تكون قد بدأت بفرض وجودها على طريق نزع اعتراف الفاعلين السياسيين بها، وهو ما برز مع تصاعد وامتداد حركة الاحتجاجات الثورية في كل المحافظات بعد أن اتخذت قيادة أحزاب اللقاء المشترك قرارها بالالتحاق بالثورة الشعبية، ونزول القواعد والكوادر الحزبية إلى الشارع وبناء ساحات للحرية وميادين للتغيير في عموم البلاد، وكان النظام في المقابل يواجه الثورة بمزيد من الأخطاء، التي تكرس لا شرعيته أمام الجماهير.. فحل الحكومة وأعلنها حكومة تصريف أعمال، وأعلن حالة الطوارئ وهي سابقة لم تعرفها البلاد حتى أبان الحرب العاصفة لتثبيت النظام الجمهوري في العقد السادس من القرن الماضي، واعتمد على قانون شطري تمت صياغته عام 1963.

وفي المرحلة الثالثة التي بدأت بارتكاب النظام الحاكم مذبحة جمعة الكرامة اتسمت بعملية دءوبة لتفكيك هياكل وبنى النظام وأجهزته السلطوية القمعية، وكان من الضروري المرور على هذه المرحلة وتحقيق هذه العملية لإحباط مخطط النظام الرامي إلى إدخال البلاد في دوامة العنف والعنف المضاد على طريق إنضاج الحرب الأهلية التي راهن عليها، وسهر من أجل إشعالها، فكانت دماء شهداء الكرامة بمثابة سيل جارف جاء على بنيان النظام، وزلزالا هز أركانه، فبدأت مرحلة تفكك النظام بحركة الانضمام الواسعة في المؤسسة العسكرية والأمنية والمدنية إلى صفوف الثورة، وأيضا إعلان القبائل اليمنية المختلفة برموزها المشيخية الالتحاق في صفوف الثوار، ودعمهم، وبدت اليمن كما لو أنها تتشكل بصورة مغايرة تماما عما عرفه العالم عنها.. بدت اليمن شعبا في مواجهة حاكم وحيد...معزول.. مضطرب.. يدير البلاد بأدواته الأسرية والعائلية، وأدرك النظام حينها أنه أمام ثورة شعبية حقيقية لم يعرفها من قبل، وليس لديه أي سابقة في التعامل معها، وهو ما دفعه أكثر إلى التخبط والوقوع في سلسلة خطايا عمقت الشرخ، وكرست الانفصال بينه وبين الشعب وقواه المختلفة الحديثة والتقليدية على حد سواء، وفقد بوصلة العقل والرشد التي ينبغي أن تكون حاضرة في مثل هذه الظروف، فأمعن بارتكاب جرائم قصف المدنيين بالصواريخ والأسلحة الثقيلة، واستهداف منازل ومقرات قيادات سياسية واجتماعية تحظى باحترام ومكانة لدى جماهير الشعب، ومن بينها منزل الشيخ عبد الله الأحمر الذي يأخذ رمزيته من مكانة صاحبه المرتبط بتاريخ النظام ذاته، وأيضا لعلاقته بالبعد القبلي الذي لازال يتحكم في النسيج الاجتماعي ويشكل البؤرة العصبوية للنظام (عصبية الحكم حد تعبير ابن خلدون)..

أما المرحلة الرابعة التي بدأت بحادث الهجوم على مسجد النهدين في قلب دار الرئاسة، وأعلن الموالون للنظام عن إصابة صالح وعدد من أركان حكمه بينهم (رأس السلطة التنفيذية ورأس السلطة التشريعية)، لتكون هذه المرحلة خاتمة كتاب نظام حكم صالح، وتتسم بالبحث عن تأمين الغطاء الإقليمي والدولي للثورة، وهي سمة ذات ملمح سياسي أكثر بكثير من ملمحها الثوري التعبوي، وتحتاج إلى ثوار سياسيين، أو سياسيين ثوار قادرين على إدارة التفاوض لترتيب عملية نقل السلطة، على طريق إنجاز عملية بناء الدولة اليمنية المدنية الحديثة..

هنا أود التوضيح أن هذه المرحلة التي مر عليها نحو شهر كان يمكن اختزالها زمنيا لولا أن الرئيس المخلوع عندما كان يُحمل على (طائرة إخلاء سعودية) متأثرا بجراحه تاركا البلاد والشعب، أقول كان يمكن اختزالها زمنيا لو لم يكن قد وضع ألغاما أمام طريق نقل السلطة، وهذه الألغام التي زرعها تتمثل في تمكينه منذ فترة طويلة أبناءه وأقاربه من مفاصل بعض الوحدات العسكرية والأمنية، ومنحْهم صلاحيات الحاكم نفسه.. لذلك فإن طول فترة نقل السلطة فرضتها معالجة إزالة تلك الألغام وبحث الثوار السياسيون في هذه المرحلة على خبراء لنزع تلك الألغام بأقل الخسائر...

- ولماذا لا يزال الحادث يكتنفه الغموض حتى اللحظة؟ ولمصلحة من هذا الغموض؟ وهل ترى أن ثمة أطرافا دولية قد تقف وراء العملية؟

ما حدث في جامع النهدين لا نستطيع الخوض فيه تفصيلا لغياب المعلومة الدقيقة والكاملة، ولتكتم أركان بقايا النظام على ما جرى ورفضهم تقديم رواية رسمية عنها حتى الساعة، وتناقضات تصريحات خطابات رموز بقايا النظام حول الحادث، وتخبطهم في تحميل المسؤولية لجهات متعددة.. فمن توصيف تهويني للحادث كما برز في تصريحات نائب وزير الإعلام، الذي قال إن ما حدث لصالح مجرد خدوش بسيطة، إلى توصيف نافي للإصابة بالمرة، كما جاء على لسان مسؤول الخارجية الأمريكية الذي أكد أن صالح لم يصب بأي أذى..

وبقدر ما يثير حادث الهجوم على صالح كل هذا التخبط من الإرباك عند التحليل، ويسهم في إضفاء مزيد من الغموض، فإنه أيضا يكشف عن أن الحادث بالتأكيد جاء من داخل مربع النظام ومن المقربين لصالح، ولن يكون بالتأكيد من خارجه، لأسباب كثيرة؛ منها أن الحادث لم يقع في جامع الصالح حيث هو مكان مفتوح نسبيا للمواطنين، رغم أن ثمة إجراءات أمنية مشددة لكل من يرغب بالدخول إليه، إنما وقع الحادث في جامع وسط دار الرئاسة المحصن والمحمي من كل الجهات بقوات الحرس الخاص والحرس الجمهوري والقوات الخاصة، ومنها أيضا أن ارتباك بقايا النظام وتناقضات تصريحاتهم حول ما جرى وتحميل أكثر من جهة المسؤولية، ثم التراجع عنها لتحميل أخرى مسؤولية الهجوم، فمن اتهام للأحمر، ثم تراجعهم واتهام المخابرات المركزية الأمريكية، ثم تحميل تنظيم القاعدة المسؤولية، ثم أحزاب اللقاء المشترك، كل ذلك يبين أن بقايا النظام الذين كلفوا بالتصريح لوسائل الإعلام وقعوا هم ضحية معلومات مضللة ربما بقصد أو من غير قصد لكنهم في الأخير لم يقدموا الرواية الرسمية المتفق عليها ربما لتعدد مصادر القوة المتبقية في أركان نظام صالح المتهاوي..

هذا الغموض في نتائج الصراع السياسي، والجرائم السياسية في اليمن ليس جديدا على كل حال..وبالتحديد في الجريمة السياسية هنا.. فلازالت عملية اغتيال القاضي الحجري غامضة، واغتيال الأستاذ محمد النعمان، واغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، ومقتل الرئيس أحمد الغشمي، ومقتل الرئيس عبد الفتاح إسماعيل...وغيرهم..

إن حادث الهجوم على جامع النهدين واستهداف صالح وبعض أركان نظامه يكشف عن علم مسبق للجناة بتحركات صالح، ومكان وجوده في هذا الوقت بالذات، وتسديد القذيفة أو الصاروخ أيا يكن يظهر معرفة الجناة أيضا بإحداثيات الموقع المستهدف، وبعد ذلك تكثر الإشاعات والتصورات حول مسار الأحداث بعد انفجار الصاروخ أو القذيفة أو العبوة، لكنها كلها تشير إلى أن الجاني لم يكن أبدا بعيدا عن الدائرة الضيقة والمقربة لصالح، بعد ذلك ليس مهما أن تكون ثمة أطراف إقليمية أو دولية أو كلاهما متورطتين في الحادث، فلا أستبعد أنا احتمالية أن تكون قوى خارجية أو مراكز نافذة في تلك القوى تعلم بالعملية إن لم تكن مساهمة في إنجاحها، بهدف إزاحة صالح من المشهد بعد أن أيقنت أن بقاءه يشكل تهديدا فعليا لمصالحها الحيوية في المنطقة عموما وفي اليمن على وجه أخص..فأنت تعرف أن زعماء ورؤساء غادروا دائرة الفعل السياسي في بلادنا بالتحديد اغتيالا أو موتا غامضا بمساعدة إقليمية أو دولية أو بهما معا، والغموض يعد أحد مؤشرات هذا الاحتمال..

طبعا الغموض حول الحادث يبدو للمراقب أنه مقصود لذاته.. فثمة أطراف إقليمية ودولية، كما فعلت الخارجية الأمريكية بعد وقوع الحادث، أو مراكز قوى محلية، وكلها تحرص على نسج مزيد من الغموض حول الحادث من خلال إطلاق تصريحات أو بث تسريبات عبر صحف موالية أو مقربة من أركان الحكم وإن بدت أنها معارضة في بعض أطروحاتها لاكتساب مزيد من القبول والمصداقية، والهدف من هذا الغموض هو اللعب بورقة الزمن لترتيب الأوضاع في اتجاه قد يكون، بل بالتأكيد، مناقض لخط الثورة، إنما ما ينبغي أن ندركه أن صالح كتب نهاية حكمه تماما مع إخراجه إلى الرياض، بغض النظر عن كل التصريحات التي تتحدث عن عودته أو (رجعته)، فصالح انتهى فسيولوجيا يوم جمعة النهدين، كما انتهى سياسيا يوم جمعة الكرامة..

الملفت هنا أن فور وقوع حادث الهجوم لم يصدر بيانات أو اتصالات من قادة الدول العربية أو الغربية لإدانة الحادث، ولزمت الصمت، بل ان الخارجية الأمريكية شككت بالحادث، ولم يصدر أي بيان رسمي من تلك الدول، وبعد أكثر من ثلاثة أسابيع قرأنا عبر وسائل إعلام حكومة تصريف الأعمال تصريحات لسفراء بعض الدول تعبر عن إدانتها للحادث، ومع وصول جيفري فيلتمان مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى قالت وكالة سبأ إن وزيرة الخارجية الأمريكية بعثت رسالة لنظيرها الدكتور القربي وفي ثنايا الرسالة هناك تعبير عن إدانة للحادث، لكن كل هذه التعبيرات لا تتناسب مع حجم ما قيل من استهداف لرئيس مفترض!! فماذا يعني ذلك؟؟ أزعم أن هذا الموقف الفاتر إقليميا ودوليا وعدم اتصال الزعماء بالطمأنة على صالح ربما يكشف عن أن المجتمع الدولي والإقليمي قد طوى صفحة العهد الصالحي في اليمن، وغسل يديه من الاعتراف بحكمه كرئيس للبلاد...

ــ يقول البعض إن البوصلة ضاعت على أحزاب اللقاء المشترك خلال الفترة الأخيرة إذ بدت كالحيران لا تدري ما ذا تفعل، كيف تنظر إلى أدائها؟ وهل أضاعت بعض اللحظات التاريخية التي أفلتت منها في أكثر من مرة؟

لا أتفق مع من يقول إن البوصلة ضاعت عن قيادات أحزاب اللقاء المشترك خلال الفترة الأخيرة، بالعكس أدارت هذه القيادات بالمجمل الصراع الثوري بحنكة ومهارة سياسية ممتازة، ولم تكن في أي محطة من محطات المسار الثوري خارج الفعل، وصناعة الأحداث، كما ظلت وفية لاستراتيجياتها الرامية إلى التغيير.. المشكلة أن منطق الثوري يختلف تماما عن منطق السياسي، لذلك قلتُ سابقا إن هذه المرحلة نحتاج إلى (سياسي ثوري) أو (ثوري سياسي).. أما في المراحل السابقة كانت الساحة لا تقبل إلا الثوري الراديكالي.. والسياسي الثوري أو الثوري السياسي هو من يحافظ على وهج الثورة وألقها، في ذات الوقت يسعى لانتزاع اعتراف المحيط الإقليمي والدولي بالثورة، وهذا المسعى ساحته أو مجاله ليست ساحات التغيير وميادين الحرية إنما مجالها النشاط الدبلوماسي، ومن الطبيعي أن أي عملية ثورية تكملها وتكللها عملية سياسية.. يدعمها ويسندها الفعل الثوري في الساحات والميادين..

وبرغم هذه الرؤية فإن لديّ تحفظات ونقدا قد يكون في بعض جوانبه قاسيا لأداء قيادات المشترك الذين لا نشك بإخلاصهم للثورة وصدق توجههم لاستكمال مراحلها..ربما بسبب تركيبة الأحزاب في كل الدنيا التي تحمل وظيفة محافظة وليست ثورية، ثورية هنا بمعنى التغيير الجذري، فهي تتحرك في إطار النظام القائم وتتحرك وفق سقفه التشريعي والقانوني، ولما تبدأ بفعل ثوري يستهدف النظام تجد نفسها خارج مشروعية النظام.. على كل حال للأحزاب منطقها وظروفها التي ينبغي أن نتفهمها، وعلى تلك الأحزاب في المقابل أن تتفهم أن للثوار منطقهم الراديكالي الذي ينبغي أن يكون مساعدا ومكملا لإنجاز نجاح الثورة..

ــ فيما بين منادٍ بحل المؤتمر الشعبي الحاكم ومحاكمة رموزه على غرار ما فعله ثوار مصر وبين من يدعو إلى التسامح والتوافق السياسي بين مختلف الأطراف السياسية ومن بينها المؤتمر، ماذا ترى؟

أؤمن دائما بحق الآخرين في البقاء وتركههم للرأي العام ليحدد مصيرهم، فالحكم للجماهير الشعبية، وموضوع مصير المؤتمر الشعبي يجب أن يترك للإرادة الشعبية، والمؤتمر الشعبي بالمناسبة ليس حزبا بالمفهوم العلمي، هو تكتل مصالح، كالطفيلي، أو العليق، يقتات من دم الدولة، وعند فطامه وفصاله عن ثدي الدولة ستجده كأن لم يكن.. فباعتقادي لا داعي لطرح مثل هذه المسائل الآن..أنا لست مع حل أي حزب أو إقصاء أي تيار.. والمؤتمر يمكنه أن يعمل في عهد الثورة كغيره من الأحزاب والتيارات، لكن من المهم أيضا أن تقوم الثورة بعملية فصل دائمة بين الأحزاب وخاصة الحاكمة وبين أجهزة ومؤسسات الدولة..هذا هو المهم، وبعد ذلك فليتنافس المتنافسون.. لا يمنع ذلك من مبدأ محاكمة الجناة ومرتكبي جرائم قتل وتعذيب المعتصمين، فهذا المبدأ لا مساومة عليه، ولا تنازل عنه..

ــ يقول البعض إن التنافر السياسي بين مختلف مكونات الثورة سيلقي بظلاله ـ حتما ـ على مرحلة ما بعد الثورة وهو ما سيحول البلاد إلى فصل آخر من الحرب كما يقولون.. ما ذا ترى؟ وهل ترى أن هذه المكونات ستتجاوز خلافاتها السابقة؟

في اعتقادي.. التنافر السياسي هنا أمر طبيعي، فهذه الثورة شعبية بامتياز، ضمت في جوانبها كل فئات الشعب وقواه السياسية والاجتماعية، وهذه الثورة اليمنية هي الثورة الأولى التي طالما حلم بها آباؤنا الأوائل من الثوار، وهي ثورة تصحيحية أيضا لثورتي سبتمبر وأكتوبر، اللتين لم تنجزا كامل أهدافهما، ووقعتا فريسة الضباط والعسكر ومشيخ القبائل وكادر الحزب الواحد، اليوم هذه الثورة هي الأولى التي تنطلق شرارتها وسط الجماهير الشعبية البسيطة، ولحقتها بعد ذلك النخبة المشيخية والعسكرية والحزبية، بينما في الماضي عرفنا ثورات يخططها وينفذها نخبة؛ إما عسكرية أو مشيخية أو حزبية ثم تبحث عن مؤيد لها من الشعب، أما هذه الثورة العظيمة فقام شعب بكامل ألوانه وأطيافه واتجاهاته وانتماءاته السياسية والفكرية والجهوية والمذهبية..

وثورة بهكذا حجم وصورة من الطبيعي أن تشهد تباينات واختلافات وسجالات في صفوفها، فإذا كانت الثورات في الماضي التي تقوم بها نخبة متجانسة من العسكر أو المشيخ أو الحزبيين عانت من الاختلافات بل الصراعات والاحتراب، فما تشهده الساحات من جدال وسجال أمر طبيعي وصحي، ولا داعي لتضخيمها، ولننتبه أن بقايا النظام العائلي ينفخ في هذه الخلافات ويشيع المخاوف ويحاول تعميقها بهدف تفكيك الثورة وهو ما فشل به بسبب وعي أسطوري لشباب الثورة المخلصين.. ثمة مزايدون ركبوا موجة الثورة أو هم بالفعل من المخلصين للثورة لكن وعيهم محدود وقاصر ولديهم استجابة لإشاعات ودعايات الثورة المضادة، ويجب عليهم أن ينتبهوا أن الثورة الشعبية سجلت سابقة في حياة الشعب، وأن من يحلم بحرف مسار الثورة فإن الشعب جاهز لتنفيذ ثورة أخرى، وبالتالي لا داعي للتخوف من الاختلافات في حال أدركنا أن ذلك صحي إذا جرى في إطار الحرص على تصويب مسارها ووفق لغة الحوار الراشد..

ــ ما هي أبرز الأخطاء السياسية التي وقع فيها الرئيس صالح خلال الفترة الماضية؟

أبرز خطيئة استراتيجية قاتلة بنظري كان سعيه توريث الحكم لأبنائه وأقاربه، وتحويل الدولة الناشئة مجرد مزرعة خاصة يعبث بها هؤلاء كما يشاؤون، وهو ما نبهه كثيرون في الماضي، لكنه لم يستمع لنصيحة الناصحين، وهذا الخطأ كان الصاعق الذي أسهم في تفجير الثورة، ولذلك فإن أهم معلم للثورات الشعبية العربية الراهنة هو استهدافها قلع واجتثاث مبدأ التوريث من المنطقة، وهو ما تراه في مصر وسوريا واليمن وليبيا..

وهناك أخطاء أخرى منها اعتماده واكتفاؤه في إدارة البلاد على التكتيك، والمناورة بأوراق لا تقبل المناورة، وإغراق البلاد ومفاصل الدولة وأجهزة المؤسسات التشريعية والتنفيذية والعسكرية والأمنية بالفساد وجعله هو المتسيّد والمتحكم بهذه الأجهزة والمؤسسات، واعتماده سياسة التحريش بين القوى السياسية، والإفراط في توزيع الوعود على حساب إمكانات الدولة.

ــ حتى الآن يعتبر موضوع المجلس الانتقالي الذي نادى به الثوار أمرا عائما ومشهدا غامضا، ترى هل المجلس الانتقالي هو الخطوة الثانية في مسار الثورة بعد "هلاك" الرئيس؟

موضوع المجلس الانتقالي ربما يكون ضرورة لما بعد المرحلة التي نعيشها الآن.. لكن عملية بناء وتأسيس المجلس الانتقالي الذي يحمل طابعا مؤقتا يحتاج إلى أداء سياسي راشد وسوي ومتحرر من ثقالات النظام الهالك..

- ثمة بوادر انفراج للتوصل إلى حل بالتوافق وعلى الطريقة اليمنية بدا في اليومين الماضيين ماذا ترى؟ وهل لذلك من تأثير سلبي؟؟

من الضروري أن نعرف أن لا عملية ثورية من دون أداءات سياسية ترافقها وتتبعها، ومن الضروري أن نعلم أن الثورة لن تستمر ثورة تعبوية طوال عمرها، فهي بحاجة بعد أن تحقق هدفها الاستراتيجي المتمثل برحيل النظام أن تباشر بعمل سياسي هادئ بعيدا عن اللغة التعبوية لبناء الدولة الجديدة، دولة العدل والحرية والمساواة والشراكة، واليمن أبهرت الدنيا بحكمة ورجاحة عقول أبنائها الثوار والسياسيين المناهضين للعهد الصالحي البائد، ومن الطبيعي أن تجري عملية توافق مع كل المؤمنين بالثورة سواء كانوا داخل النظام المتساقط، أو من خارجه، ولنتذكر أن هناك كثيرا من أنصار الثورة موجودون داخل النظام البائد، وهؤلاء حكمهم يدخل في المقولة (أولئك ممن يخفون إيمانهم)، لكن متى تكون عملية التوافق لها آثار سلبية؟؟ عندما تبدأ الأحزاب أو السياسيون الثوار بالتنازل عن ثوابت ثورتهم المتمثلة بالاعتراف بالثورة، وترحيل كامل النظام الأسري من الحكم، ومحاسبة كل الذين ارتكبوا جرائم بحق الشعب، وإعادة الأموال المنهوبة إلى حزينة الدولة..

ــ بم تعلل تعاطف المملكة العربية السعودية مع علي صالح ونظامه إلى هذا الحد؟ وكذا المجتمع الدولي؟ وكيف تنظر إلى اليمن بعد رحيل علي صالح؟

من الطبيعي أن تتعاطف الرياض مع صالح، ليس بسبب قناعتها به، ولكن تركيبة نظام الحكم السعودي وطبيعته المحافظة، فإنه يقوم على رفض كل النزعات الثورية، ولقد سبق أن وقف مع نظام الحكم الإمامي البائد رغم خلافاته وصراعاته وتناقضاته معه، ووقف ضد تطلعات ثورة استقلال جنوب اليمن رغم أنه كان لا يرغب ببقاء الاستعمار البريطاني في خاصرته الجنوبية لأسباب خاصة.. هو لم يقف أبدا مع التطلعات السياسية الثورية للشعوب في أي بلد عربي أو إسلامي لأنه يرى في ذلك تهديدا لمصالحه ولمشروعية بقائه وهي رؤية في نظري خاطئة، وتسحب نفسها من أيام الحرب الباردة التي تجاوزتها المنطقة.. على كل حال لدى الرياض أجندتها واستراتيجياتها التي تخصها، لكنها كلما أمعنت في تجاهل تطلعات وآمال الشعوب والبلدان لاسيما اليمن الواقع في خاصرتها الجنوبية، وكلما راهنت على الأشخاص والواجهات، تخسر الكثير وبأحجام مضاعفة عما كانت تخسره في الماضي...

ــ فيما بين النظام الفيدرالي التام ونظام الحكم المحلي الواسع الصلاحيات تعددت وجهات النظر في تعيين نمط الحكم القادم.. ما الذي تراه؟

هذه وسائل، الهدف هو إيجاد دولة مدنية حديثة ذات نظام يحقق العدالة والمساواة والكرامة والأمن والشراكة في السلطة والثروة والقرار، ويؤدي إلى بناء يمن قوي ومزدهر وفاعل في محيطه الإقليمي والدولي فإذا كانت الفيدرالية أو غيرها ستحقق الهدف فلا شيء يمنع اعتمادها من خلال الحوار الراشد والجاد بين كل مكونات المجتمع اليمني..

ومن المهم هنا التأكيد على تحييد مؤسسة الجيش بقياداتها، ومؤسسة القبيلة بمشيخها عن الإدارة السياسية للدولة الجديدة، فهاتان المؤسستان برموزها القيادية لهما وظائف خارج إطار الهيكل الجديد للدولة، فالمؤسسة العسكرية مجالها الحدود والثغور وحماية السيادة الوطنية، والمؤسسة القبلية برموزها المشيخية دورها يتحدد في الشأن الاجتماعي الخاضع للإدارة السياسية المتحررة... وهو ما تعهد به القائد لعسكري اللواء علي محسن صالح والشيخ صادق بن عبد الله الأحمر بالالتزام به، مما يشير إلى وعي متقدم لرموز هاتين المؤسستين، ولإدراكهم كوارث تماهي وتداخل العمل القبلي والعسكري بالعمل السياسي للدولة التي كرسهما وعمقهما النظام الهالك..

ــ قدم بعض المثقفين صورة شوهاء عن الأديب أو المثقف في المجتمع والدور المنوط به في خدمة قضايا الأمة والانتصار لمطالبها، كيف تقرأ ما أقدم عليه بعض الزملاء والساسة في هذا الجانب؟ وما انعكاساته السلبية؟

حتى لا أتجنى على أحد، فإن دور المثقفين والأدباء في مجتمعهم دون المستوى المأمول المتمثل في استلام قيادة الحراك الاجتماعي، فلازال هؤلاء يراوحون أماكنهم، ويرتهنون في حركتهم على الاستجابة لأفعال القوى الاجتماعية التقليدية، ويتحركون وفق المحددات التي يرسمها لهم الساسة المنقطعون عن المحيط الثقافي.. ولا أخفي أني كنت أنتظر من بعض القامات الثقافية والأدبية نصا أو موقفا واضحا ومؤيدا ومساندا للثورة، كما عودونا في الماضي بمواقفهم المؤيدة والداعمة لثورة سبتمبر وأكتوبر!!

بالطبع لا أعمم هنا، فثمة مثقفون وأدباء وصحفيون كانوا ولازالوا منارات في إحداث هذا التحول العظيم في حياة المجتمع وأسهموا في قيادة الثورة والحفاظ على مسارها بعيد عن المواقف العدمية، والرؤية المزاجية، والتحركات العبثية.